بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
ســـــبحانً مَنْ فضلُهُ أرجا أمانينا
يفيضُ خيراً مَدى الأزمانِ يهدينـا
بليلـةِ القـدرِ يُكـرِمُنــا ويَمـنَحُنــــا
روحَ الحيـاةِ لِنُحـيـيهــا وتُحيـينـا
في هذه الحياة التي نعيشها ما أمسَّ حاجتنا لليلة القدر ومضاعفة الأجر، تلك الحاجة التي شعر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك طلبها من ربِّ العالمين فكانت ليلة القدر عطيةٌ صمدانية ونفحةٌ رمضانية رحمانية، فهي إحدى تجليات قوله تعالى: { ولسوف يُعطيك ربّك فترضى} فقد ورد في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك؛ فكأنَّه تقاصر أعمار أُمَّته ألا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرُهم من طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، خيرٌ من ألف شهر. موطّأ مالك.
وورد في خبرٍ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بنى إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله عزّ وجلّ قوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي خير من ألف شهر من الشهور التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله. رواه البيهقي في سننه الكبرى. وليس ذلك في جنب عطاء الله تعالى بعزيز.
لنكن فيها بكل ما أوتينا من قوة، وبكل ما لدينا من حب؛ لنجعل نهر طاقاتنا العظمى يصبّ في بحر أعظم ليالي الدنيا على الإطلاق؛ ولنتألق في إدارة لحظاتها الثمينة؛ لنحظى بعظيم أجرها.
إنها ليلة القدر، تلك الليلة العظيمة المباركة التي أُنزلَ فيها القرآن الكريم مبيّناً عظيم قدرها حيث قال سبحانه: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } وقال جل من قائل في سورة الدخان: { إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركة}.
وفيما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين قال : وتلا هذه الآية { فلا أقسم بمواقع النجوم } قال: نزل متفرقا.
وقد ورد فضل هذه الليلة على لسان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال أفضل الشهور شهر رمضان وأفضل الليالي ليلة القدر. رواه الطبراني في الكبير.
وقال صلى الله عليه وسلم في فضل قيامها: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه). متفقٌ عليه.
فأعظم بليلةٍ العمل فيها خير من ألف شهر، وأكرم بليلةٍ من قامها غفر الله تعالى ما تقدَّم من ذنبه فما أحوجنا لها.
ولما لليلة القدر من أهميةٍ فقد ورد الأمر النبوي بالتماسها وتحريها من بين سائر الليالي الرمضانية فقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ – يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ – فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي. رواه البخاري.
وقد أُخفيت ليلة القدر ولم تُعيّن لحكمةٍ إلهيةٍ عظيمة وهي اجتهادُ الناس في طلبها بالعبادة والتقرب إليه سبحانه ليكون ذلك كله في ميزان أعمالهم.
غير أن لهذه الليلة مواصفات ومزايا ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكي تمتاز عن غيرها فتُعرف، فقد يُنبَّئ المرءُ بها عن طريق رؤيةٍ منامية، وكذلك يشعر الإنسان المسلم بها من خلال مشاهداته لظواهر كونية معيَّنة ففيما يتعلّق بالرؤية عن ابن ورد عباس رضي الله عنهما أنه قال: أُتِيتُ وَأَنَا نَائِمٌ فِي رَمَضَانَ فَقِيلَ لِي إِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ.مسند أحمد.
وفيما يخصُّ علاماتها فقد تكاثرت الأخبار في وصفها فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( ليلة القدر ليلة بلْجة لا حارة ولا باردة، ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح، ولا يرمى فيها بنجم، ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها ) الطبراني.
اللهمَّ أكرمنا في هذا الشهر العظيم بثواب ليلة القدر، وتفضَّل علينا بتوبةٍ نصوحة: تطهرنا بها عقلاً وقلباً وروحاً، وأعد نعمة الأمن والأمان إلى بلادنا، وصدَّ عَنّا هجمات المعتدين وحقد الحاقدين بكرمٍ منك يا أرحم الراحمين.