فيـــــروز اشـــــتقنـــــا

بقلم عبـــــد الخـــــالق قلعـــــه جي

 

في كثير من تفاصيل حياتية، وبحكم النوازع البشرية، تجتاحني – بين وقت وآخر – الرغبة وربما الحاجة، إلى أن أتحرر من بعض ما يثقل كاهلي وأفكك عن نفسي بعض القيود التي ملأتُ بها على مر السنين جعبتي، حاملاً إياها – اختياراً – رغم ما تفسده علي من جمال لحظة أحياناً، وما تقبض في أحايين أخرى على انعتاق تحتاجه الروح إكسيراً لبعض عيش وحياة.. فلا أستطيع إلى ذلك سبيلاً.

 

سمعتُ صوتاً هاتفاً.. من رباعيات كوكب الشرق.. أستحضرها.. أدندنها.. أترنم بلحن سنباطيها فتستعصي عليَّ وصايا خيَّامِها، وأَشَغَل البال بماضي الزمان أكثر، و بآت العيش قبل الأوان، لتنسرب لذة حاضر وأكون الغافل فيها حينما أرى جمال دنياي ولا أجتلي.

 

أستمحيك العذر ” أبا فراس ” في أن أذيع، فالشوق أضناني وكذا اللوعة.. سأعمل بوصية ” ماركيز ” في رسالته الأخيرة دون أن أنتظر أكثر، وها أنذا أعترف وأفعل.

 

في منطقة الفيلات ونحن نحتسي القهوة.. اشتقتُ فيروز..  قلت لصديقي.. ورحت أجول بناظريّ على ستائر هدها الحزن والانتظار..  ” وبْوابْ بواب.. شي غْرب شي أصحاب.. شي مسكَّر وناطر.. تيرجعوا الغيَّاب “.. كأنه أدرك ما بي فبعث من هاتفه المحمول صوتها الغارق برائحة الياسمين.

 

ضغطت بأصابعي على الرشفات المتبقية منها وطاف بي الحنين إلى ذات يوم كانت.. بسمة هذي المدينة وروحها الأخرى.

 

كل التفاصيل في البال والذاكرة.. حبل الغسيل وكل الشرفات.. كل المحال والبيوت.. الأرصفة والطرقات، وكل الصلوات وقداديس الفصح والميلاد التي حفظتُها على مدى أكثر من خمسة وعشرين عاماً.

 

في البال – أبداً – أهلنا.. أهلونا.. وفي الذاكرة أبو الفقراء ” البطريرك غريغوريوس حداد ” من باع صليبه أيام الحرب العالمية الأولى ” السفر برلك ” من أجل إطعام الجياع في أحلك الظروف، فاتحاً أبواب الكنائس والاديرة امام كل محتاج وملهوف دون السؤال عن صليب أو هلال ولم يتردد عن بيع ممتلكات الكنيسة ليساعد الجميع مسلمين ومسيحيين.

 

مازال صداها يتردد، والقلب لمَّا يزل ينبض بكلماته، من على منبر الجامع الأموي الكبير بدمشق حيث وقف ” فارس الخوري ” خطيباً، ليقلب الطاولة على المحتـ — ـل الفرنسي، ويمزق ورقته البغيضة ولتبقى قدسية الوطن أولاً.. عنواناً ونهجاً وسلوكاً وإيماناً.

 

هي ذي اللوحة التي حبانا الله على مر الزمان تروي الحكاية.. فصلٌ منها قريب حينما فتحت أبواب الكنائس والجوامع تستقبل الناس جميعاً وتمد يد العون أيام الحرب الآثمة على وطننا وأيام الكارثة التي ضربت المدينة شباط ألفين وثلاثة وعشرين.

 

إنها المحبة التي لا تعطي إلا ذاتها ولا تأخذ إلا من ذاتها لأن المحبة مكتفية بالمحبة.. قبل أقل من شهر وفي رمضان الفائت كانت كنيسة مار أفرام للسريان الأرثوذكس بحلب تحي ليلة القدر أيضاً عندما قدمت آلافاً من وجبات السحور لأهليهم في عدد من الجوامع في تلك الليلة.

 

استميحك العذر أيضاً ” عُمَر الخيام ” فالرباعيات في حلب منذ الأزل مكتوبة.. أن نَشغل البال بماضي الزمان، لأنَّا لِآت العيش، نريد أن يكون أجمل.. فصح مجيد مبارك بكل الايمان والرجاء نصلي، قيامة للمحبة من جديد وللوطن المحفور عمرنا فيه.. فيروز اشتقنا.. ” ويا رب خليها مزيني ببواب.. ولا يحزن ولا بيت.. ولا يتسكر باب “.

 

 

======

‏تابع قناة صحيفة الجماهير في واتساب

https://whatsapp.com/channel/0029VaAVqfEFcowBwh1Xso0t

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار