بقلم عبـــــد الخـــــالق قلعـــــه جي
رغم معاهدة نفسي على ألا افعلها ثانية، إلا أن رغبة كانت تلح علي – لعلي بعض وفر أحققه فيما أستطيع تبضُّعَه من احتياجات – في أن أعود بين الحين والآخر لأنكث هذا العهد مضطراً وأجد نفسي من جديد في باب جنين.
من بعيد تصمُّك أصوات الباعة “بديسيبلات” عالية حادة، تطلقها مُسجلَةً أبواق قرعاء، أو ترددها دون توقف حناجر.. تخترق أذنيك فلا تبقي على “شعيراتِ دهليزٍ” منها واحدة، ولا على غشاء طبل دون أن ينثقب.
على الرصيف أو فيما تبقى من الجادة – يوم كانت تمر منها سرفيسات الهلك وطريق الباب وغيرها – بسطات غالباً ما يقوم عليها اثنان من الباعة أو ثلاثة.. واحد يناول الأكياس للزبائن وآخر يقوم بترميم البسطة ما يباع منها أولاً بأول بالخضار أو الفاكهة.. تتزاحم الأيادي.. زبون يكتفي بالتقاط ما هو على الوجه وآخر ” يفرفِد ” يمنة ويسرة ليصل إلى ما يلبي طلبه أكثر… واحداً بعد آخر تعود الأكياس لتأخذ طريقها إلى الميزان الالكتروني ومن ثم عليك دفع الحساب.
الميزان الالكتروني غالباً هو في مكان اختار له الباعة، بحيث لا يمكن للزبون أن يرى قراءته من وزن وسعر.. وإن كانت الشاشة أمام ناظريك وبعض قراءاتها تضيء، فإن البراعة والسرعة الاحترافية المدهشة التي امتلكها أولئك، لن تسمح لك بأن تقف على القراءة من وزن وسعر ومبلغ يجب أن تدفعه.
تحمل أكياسك وتحاول أن تجد لك مخرجاً من حيث أتيت.. تحاول بعد هذه المعمعة أن توهم نفسك ببعض ارتياح، أنك استطعت تحقيق وفر جراء أسعار أقل، لتكتشف وقبل أن تغادر السوق في كثير من الأحيان أنك تكبدت فقط العناء وأنك لم توفر شيئاً.. فقد كان الوزن ناقصاً.. ويل للمطففين.
” باب جنين ” ليس فقط سوقاً يقصده من وجد نفسه قريباً منه أو ماراً به، بل هو مقصد كثيرين من أحياء مختلفة.. بعضها بعيد وآخر جداً، ومع ذلك ينزلون، ولكل أسبابه في مشوار التبضع هذا.
صحيح أن الخيارات متاحة هنا أكثر، وصحيح أن الأسعار – بغض النظر – عن القسطاس المستقيم أقل، لكن الأكيد أيضاً أن الباعة في معظم الأحياء -محلات وبسطات- يستغلون الناس في أماكن سكنهم تلك، فيرفعون الأسعار إلى درجة تصل إلى الضعف أحياناً.. من باقة البقدونس إلى البندورة والخيار والفليفلة والبصل والثوم وأصناف الخضار الاستهلاكية اليومية والفواكه بحسب مواسمها وأيامها.. يتذرعون.. وهم في بعضها على حق.. بالإيجارات وأجور النقل والضرائب وغيرها من نثريات، لتستشري عدوى الجشع فيصرون على التعويض أضعافاً مضاعفة.
أذكياء هم بالتأكيد ولكن في جانب فقط، إذ يعلمون علم اليقين أن زبائنهم من أهالي تلك الأحياء لا يتسوَّقون من عندهم إلا للضرورة (ع اللزمة ووقت القَطْعة) ولو كانوا أكثر ذكاء ورحمة، لباعوا بأقل و لباعوا أكثر، ولربح الاثنان -البائع والمشتري- أكثر و لوفروا على الحاويات مالم يبيعوه بسعر أقل.. ويل للمطففين.
سوق باب جنين انتقل إلى حي المشارقة مقابل القصر البلدي وعساها نقلة في سلوك أولئك الباعة وإعادة إحياء ضمير نأملها وننتظر من الجهات المعنية المتابعة والمراقبة والمحاسبة.. عصاً غليظة “ويل للمطففين” تتطلبها.. على رأي أحد أصدقائنا الذي يأخذ عليَّ الرفق واللطف واللين في التعاطي والتناول والتلميح والتصريح..
ليس ” باب جنين ” وحده يغص بهم، فهناك أسواق كثيرة أخرى يكتال فيها البعض على الناس فلا يؤدي الذي أؤتمن أمانته واجباً تجاههم ولا يتقي الله ربه في حقوق وشؤون وحاجات الناس وقضاياهم.. فيتقاعسون ويبتزون ويتقاضون ويُخسِرون.. ويل للمطففين.
للأمانة ليس الكل من أولئك، فهناك من يعضُّ عليها بالنواجذ بكل الرضا والنبل والمسؤولية.. لا ينفث عقداً ولا يزفر مزاجية.. لا يسوق مبرراً ولا يبحث عن عذر.. وحسبه أمانة وواجب وذمة والضمير.. هو الأصل الطيب في أهلنا وناسنا وهو الأمل – رغم كل ما يشوب الآن – الذي به نعبر لغد.. لا مطففين فيه.. ولا ويل.. إن شاء الله.