يخـــــلق من الشـــــبه أربعـــــين

    بقلم عبـــــد الخـــــالق قلعـــــه جي
يمنة ويسرة رأيته في مشيته يترنح.. يضع حمله على الأرض.. يلتقط بعض أنفاسه ثم يعود لحُلمه ويمضي لحَمله من جديد..
بكلتا يديه الصغيرتين يقبض على أذني الطنجرة الكبيرة، خشية أن يتعثر في ظلمة المساء أو أن يقع، فتنسفح حبات المشمش التي تنتظر مصيراً على رفوف المطبخ، محطتها الأخيرة قبل أن تسكن ” قطرميزات” أو ” مطربانات ” وقد صارت للمؤونة “مربى” لا أعلم أنا ولا حتى هي، إن كانت قطع من جبن “مسنرة” أو “مشللة” سترافقها في الرحلة إلى أفواه تنال منها فطوراً أو على العشاء.
” بتحب أساعدك “… بخجل واستحياء ومكابرة رد شاكراً: “لا عمو.. الله يعطيك العافية”… بضع خطوات قطعت.. من جديد التفتُّ إليه وقد أنهكته هذي الطنجرة “الخاروفية” التي لم تشفق على ذراعيه الغضتين كما ذاك الذي أرسله بها.
“خليني أساعدك عمو”.. أعدت عليه.. وكمن جاءه من السماء غيث والمدد.. وبدون أن تنبس شفتاه، أجابتني تفاصيل وجهه المتعبة بـ ” ليتك تفعل “.. تقاسمنا الحمولة سوية.. شددت على طرف الطنجرة أفرك أذنها علها تشعر بقسوتها على ذلك الطفل الذي لم يبلغ العاشرة من عمره بجسده النحيل وخطوته التي صارت أكثر رشاقة… ومضينا في الطريق.
قلت له ممازحاً “شقد بدك تعطيني إجرة”.. بكل البراءة قال: “معي ألفين ليرة بس”.. “قلتلو ما بتوفِّي” .. فأدرك ممازحتي وافتر ثغره عن ابتسامة شاكرة.. يا رب من أجل الطفولة وحدها….
أمام مدخل البناية التي يقطع الرحلة إليها، قال: “خلص عمو وصلنا”… “بدك شي تاني قلتلو”.. قال: “لا عمو خلص أنا بطالعها ع بيت المعلم.. الله يعطيك العافية”.
في استديو تصوير فوتوغرافي.. كان هناك.. كأني به طفل المشمش وقد حملته أمه إلى الحياة، ثم وهناً على فقرٍ إلى ذاك المحل اصطحبته ليلتقط له “جمال المصور” صورة تكون ثمانية على كرت الطباعة كي تسجله في الصف الأول ربما.
جالساً عنده كنت أحتسي ” النصف قهوة “.. سمراء كالتي لونت وجه ذلك الطفل الذي رحت أتأمله من ” فَرْقِهِ لقَدَمِه “.. قدمه التي غاصت مع الأخرى في بابوج بلاستيكي – كان أزرقاً – به يمشي.. أصابع قدميه مكشوفة.. الإبهام منها نافر أكثر.. يقوم فوقه ظفر.. لو تم النظر إليه والعناية به والمحافظة عليه لما لوَّن ما تحته سميكُ غبار وسواد، ولمَا غاب مقص أظافر فبدا مثل سن منشار متكسر.. دونما تشذيب ودونما استدارة.
السهم الدائري.. أمام ناظري أومض.. ودون أن أضغط عليه أعاد لي تشغيل المشهد بكل تفاصيله لتختفي في نهايته طنجرة وينقشع غبار ويتلاشى السواد.. مقاطع مقترحة أخرى.. سبحان الله.. يخلق من الشبه أربعين..  ذات الوجه وقد كسته نضارة الطفولة.. وأحلام ترتسم كما دوائر الماء في المسبح الذي يرتاده طوال العطلة الصيفية.
ذات الوجه وقد أشرق.. كالعصفور بخطاه ينتقل.. كراسات يبدو من عنوانها أنه منتسب إلى معهد لغات صيفي.. ثالث يطلع لي وهو من مركز معلوماتية خارج.. لا يترنح ولا يخشى تعثراً.. ورابع وخامس.. تاسع وثلاثون وحتى الأربعين.
نسمة صيفية لفحتني.. ” أنت لم تعد متصل”.. لا نادٍ.. لا دوائر حلم ولا مسبح.. كأني في سِنة وسبات كنت أنا الآخر.. أحلم.. أتخيل وأتمنى.. نسمة من بعيد قريب تبعث فيّ الأمل أبداً ليصير حقيقة – بها رغم ارتفاع رسوم الانترنت – أعود متصلاً.. متصلاً بما كنا عليه قبل حـ رب آثمة على وطننا الحبيب وبما نحلم أن نعود إليه ونصل من جديد وترجع ضحكة إذا غردت في موحش الرمل أعشبا.
ـــــــــــــــــ
‏تابع قناة صحيفة الجماهير في واتساب
👇🔥
»»»»»
قناتنا على التلغرام: 👇🔥
قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار