د.سعـد بساطة
عـمل الفريق هو أهم الأساليب المطروحة لإنجاز العـمل بسويـّة ممتازة؛ وضمن سرعـات مقبولة. وكل مرجعـيات الأعمال تطنب بفوائده؛ إلا أنـه ككل دواء ناجع؛ لا يخلو من أعـراض جانبية!
وقد يكون أهمها تحوّل الفريق لنسخة طبق الأصل من شخصية فعـالة ذات كاريزما مؤثرة عـلى الكل؛ وبالتالي فقرارات الفريق تصبغ بصبغـته؛ وهنا نخسر أهم مزايا فريق العـمل؛ وهو الموزاييك المتنوّع لأفراده؛ بأفكارهم المتباينة البناءة.
هذا ما يدعـى بظاهرة القطيع: حيث يصفها الكاتب الفرنسي “فرانسوا رابلي” ضمن سياق حكاية رجل يدعى “بانورج” (Panurge) كان في رحلة بحريّة على متن سفينة .. وكان على نفس السفينة تاجر الاغنام “دندونو” ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها.
كان “دندونو” تاجرا جشعا لا يعرف التسامح، وحدث أن وقع شجار بين “بانورج” و”دندونو” صمّم على أثره “بانورج” أن ينتقم من الأخير، فقرّر شراء خروف من التاجر بسعر عال وسط سعادة دندونو بالصفقة الرابحة. وفي مشهد غريب يمسك “بانورج” بالخروف من قرنيه ويجرّه بقوة إلى طرف السفينة ثم يُلقي به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبعـت خطى الخروف الغريق ليلقى مصيره، ليلحقه الثاني فالثالث فالرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في “طابور مهيب” لتمارس دورها في القفز. جن جنون تاجر الاغنام “دندونو” وهو يحاول منع القطيع من القفز إلى الماء، لكنّ محاولاته باءت بالفشل ،فقد كانت “قناعـة” الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم. وبدافع قوي من الجشع اندفع “دندونو” للإمساك بآخر الخرفان الاحياء آملا في إنقاذه من مصيره المحتوم، إلّا أن الخروف “المقتنع” بما يفعـل كان مصراً على الانسياق وراء زملائه، فكان أنْ سقط كلاهما في الماء ليموتا معا غرقًا. بعـدها بات تعبير “خرفان بانورج” (moutons de Panurge) مصطلحا شائعا في اللغة الفرنسية ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء وأفعال الآخرين.
ليس أخطر على مجتمع ما من تنامي روح القطيع لديه؛ وكثيرا ما تصادفنا في حياتنا الآن قطعان كاملة من “خرفان بانورج” تردد كلاما أو تفعل أفعالا لمجرد أنها سمعت أو رأت من يقوم بذلك ..
في مؤسسة تتبع بسلوكياتها مجتمع القطيع، يفقد المرء فرديته بشكل مطلق ويذوب في المجموع ويتماهى معه بشكل تام فيبدو شخصاً آخر بسمات سلوكية متناقضة تماماً مع سماته الحقيقية، فها هو عقله وقد أقاله تماماً، بل قتله بدم بارد وذهب به إلى ثلاجة حفظ الموتى.
وهذا ما دعا مارك توين لأن يحذرنا من مغبة الانجرار وراء القطيع، فيقول: ” كلما وجدت نفسك منجرفاً في طريق الأغلبية دون تفكير، فعليك أن تتوقف دون تردد وتغير اتجاهك في التو واللحظة” ويطلقون على قائد القطيع المحرك الكُلي، وخير مثال على ذلك حركة أسراب الطيور المهاجرة، أو حركة مجموعات الأسماك عبر البحار، وكذلك قطعان الحيوانات في الغابات.
مثال طريف: ارتفع سعـر آلة الخياطة القديمة التقليدية “سنجر” ماركة النمر؛ لأرقام خيالية في السعـودية؛ بعـد تردد إشاعـة مفادها أنـّه ضمن تركيبها يوجد الزئبق الأحمر (السائل الثمين المستخدم للكشف عـن الكنوز)! وتدافعـت الجموع لشراء خردة تلك الآلات..
قال الأحنف بن قيس ليزيد بن معـاوية قولا ً شنيعاً.. فسكت يزيد ” فتعجبت زوجة يزيد من ذلك! لاحقاً سألته : لم سكتَ عنه؟ ولم يقتله ؟ فأجابها: ويحك يا إمرأة ألا تعلمين أنه إذا غضب، غضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه لماذا غضب …. إن الجملة الأخيرة التي قالها يزيد تمثل سلوك القطيع في النفس البشرية وقد أدرك يزيد بدهائه أن الأحنف قائد للقطيع وأن وراءه مائة ألف رجل يخرجون معه للقتال لا يدرون لماذا خرجوا !! .. أوضح صورة لسلوك القطيع قالتها العرب.
يخص تطبيق نظرية القطيع سوق الأسهم؛ فهذا السوق تتجلى به النظرية بصورة واضحة خصوصاً عند نزول الأسواق أو انهيارها فتدافع الناس للبيع خوفاً من الخسارة وفقدان رؤوس أموالهم هو ما يسمى ببيع القطيع!
بالختام ظاهرة القطيع: تختصر مأساة الكثير من مؤسساتنا .