د. سعـد بساطـة
بات الرئيس الفرنسي ساركوزي ضمن صنـاع القرار الذين اقتنعـوا بأن الإحصاءات الرسمية يجب أن يطرأ عـليها تعـديل جذري،
ففي منتصف أيلول 2008 قامت لجنة من خمسة وعـشرين من عـلماء الاقتصاد والاجتماع المرموقين- بعـضهم حائز جائزة نوبل للاقتصاد، بتقديم نتائجها (تقرير عـُرف باسم رئيسها جوزف ستيجليتز- Joseph Stiglitz. وقد دعـا التقرير البالغ قرابة ثلاثمئة صفحة لنبذ التعـلّـق المرضي إلى حد الهوس بمقياس اسمه الدخل القومي! (يمكن الوصول لنص التقرير بالرابط: www. stiglitz-sen-fitoussi. fr). كان الاتحاد السوفييتي السابق يحكم عـلى الأداء الاقتصادي بكمية الحديد المنتج، وعـدد الجرارات التي يصنـعـها سنوياً, أما بريطانيا العـظمى» فالمقياس هو المدى الذي تصل إليه أساطيل بحريتها التجاريـة، وبالنسبة لألمانيا فعـدد القطعـات الضاربة في جيشها, في يومنا هذا تقيس المجتمعـات الغـربية النمو الاقتصادي باستخدام المؤشر الوحيد (الناتج القومي الإجمالي)، ولكن… هل ذلك الجواب ينحصر ببساطة بمقارنة الناتج الكلي المحلي: (GDP) لكل شخص، بالنسبة لكل بلد.. وهو الذي يحدّد مقدار ازدهار الأميركيين؟ الفرنسيين؟ الهنود؟ سيعـطيك هذا مدخلاً للمقياس المادي للحياة: نجد الأميركيين والفرنسيين بالمتوسط أعلى من الهنود والغـانيين، ولكن قد تشك في النتائج، والاقتصاد يعـلم أن هذا هو لب الحقيقة: إن الدخل القومي للفرد الأميركي أعلى منه لدى الفرنسي، ولكن الفرنسي يصرف وقتاً أقصر بالعـمل، وهو تحت ضغـوط أقل… فهل وضعـه أسوأ حقاً؟؟ قد يكون الايطالي في وضع اقتصادي أخفض من مثيله الألماني ولكنه يشعـر أنـّه أكثر سعـادة. قد يكون المواطن الأميركي العـادي يتغـذى بشكل جيد ولكنه يائس (Well Fed but Fed up!!). محذور آخر لتبني مقياس الدخل القومي هو مدى عـدالة توزيع هذا الدخل بين فئات الشعـب، فرغم أن متوسط دخل المواطن في البرازيل مثلا يفوق دخل المواطن في روسيا البيضاء إلا أن روسيا البيضاء تتمتع بعدالة اقتصادية تفوق ما يوجد في البرازيل.. ففي روسيا البيضاء يستأثر خُمس المواطنين (الأكثر ثراء) بـ33% فقط من الناتج المحلي ويتركون 67% لبقية السكان؛ أما في البرازيل فيستأثر خُمس المواطنين الأكثر ثراء بـ64% من الناتج القومي (وتالياً لا يتركون سوى 36% لأكثر من 120 مليون مواطن..). إنّ الدخل القومي مصمّـم لقياس السلع والخدمات التي يتم إنتاجها في الـدول، ولكنها لا تقوم بذلك بشكل دقيق. كم هو مقدار شعـور الناس بالرفاه؟ يعـتمد عـلى أمور ليس للدخل القومي عـلاقة بها بالضرورة.. مثل صحتهم، أو مدى حصولهم عـلى وظيفة.
في السنوات الأخيرة كان الاقتصاديون يبحثون عـن مقاييس أخرى فيما يتعـلّـق بالرفاه أو السعـادة، الـمفهوم الذي كان عـصيّـاً عـلى القياس الكمي. قامت اللجنة بتقسيم عـملها لأقسام ثلاثة رئيسة:
– التعـامل مع الانتقاد المعـهود للدخل القومي كمقياس للرفاه. – بالنسبة للجنة الالتفات إلى مقاييس نوعـية الحياة»، هذه المحاولات لالتقاط الرفاه بعيداً عـن التحكـّم المجرد بالموارد الاقتصادية. لسنوات عـديدة كان الباحثون مندهشين لتناقض ظاهري: لكون المداخيل المتزايدة ليس بالضرورة أن تجعـل الناس سعـداء بنهاية الأمر.
– أخيراً يتفحـّص التقرير رفاه الأجيال القادمة، فالناس الموجودون الآن يعيشون عـلى مخازين من الموارد الطبيعـية والتي تم استهلاكها، إضافة للآليات والمباني، والمؤسسات ذات الطابع الاجتماعي. ينتهي التقرير بأن من المستحيل إيجاد مقياس وحيد بإمكانه أن يضبط كل هذه العـوامل.
في السياق ذاته ووفقاً لتقرير للأمم المتحدة يقيس مستوى السعادة والرفاهية صدر منذ أيام، حلت شعـوب شمال أوروبا واسكندينافيا في طليعـة السعـداء. وحث التقرير قادة العالم على ضم الرفاهية، كونها عاملاً مهماً لقياس التنمية في الأهداف الإنمائية المستدامة بعد عام 2015, وقامت شبكة حلول التنمية المستدامة للأمم المتحدة بتجميع التقرير باستخدام بيانات الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للفرد ومتوسط العمر المتوقع للإنسان وعوامل مهمة مثل وجود شخص ما يعتمد عليه المرء وحرية القيام بخيارات في الحياة والكرم والتحرر من الفساد لتحديد مستويات السعادة. وقال البروفيسور مدير المشروع هناك الآن طلب متزايد في جميع أنحاء العالم لأن تكون السياسة أكثر اتساقاً مع ما يهم الناس حقاً، إذ هم أنفسهم يحددون رفاهيتهم». ومن بين الدول الأخرى التي جاءت في صدارة القائمة سويسرا وهولندا والسويد وكندا وفنلندا والنمسا وآيسلندا وأستراليا على التوالي، واحتلت الولايات المتحدة المركز الـ17 بعد دول مثل المكسيك وبنما.
لا أدعـو أصحاب القرار الاقتصادي لتبنـّي مقاييس اللجنة المقترحة بالحرف، ولكن إهمالها يشكـّل خسارة كبيرة، وبين هذا وذاك الطرفة الآتية لشخص يحلـق في السماء وآخر شديد الواقعية، حيث اتفق اثنان من علماء الفلك على الذهاب للصحراء والتخييم هناك..
وفي منتصف الليل أيقظ أحدهما الآخر وقال له بلهجة جادة: افتح عينيك وقل لي ماذا ترى!؟ قال الثاني: ملايين النجوم!! وماذا تستنتج من هذا!؟ فرك عينيه واعتدل في جلسته وقال: همممم إذا افترضنا أن في مجرتنا تريليون نجم، وأن واحداً من كل ألف نجم يدور حوله كوكب واحد فقط فهذا يعني أن في مجرتنا مليار كوكب. وإذا افترضنا أن واحداً من ألف كوكب يضم نوعاً من الحياة فهذا يعني أن هناك (1000.000) كوكب حي في مجرتنا فقط!
أجابه: حسناً يا زميلي العزيز؛ رؤيتك للنجوم تعني أن هناك من سرق خيمتنا!
ـــــــــــــــــ
تابع قناة صحيفة الجماهير في واتساب
https://whatsapp.com/channel/0029VaAVqfEFcowBwh1Xso0t
»»»»»
قناتنا على التلغرام: