بقلم عبـــــد الخـــــالق قلعـــــه جي
امرأة فريدة.. لا ترى.. لا تسمع.. لا تتكلم… لا تحسبنها التي يرغب بها البعض ويتمنى، إنما تلك التي حولت إعاقاتها ومعاناتها إلى جوانب إبداعية ونتاجات ثمانية عشر لتنال جائزة نوبل للآداب عام 1979.
تأخذنا هذه المرأة في تجربة افتراضية متخيَّلَة، إلى مالا نلتفت إليه واقعاً في كثير من الأحيان.. تأخذنا – فيما لو أبصرتْ – إلى وجوه الجيران والأهل والأصدقاء والأحباب.. ألوان بشرتهم وعيونهم.. تتأمل ذلك التنوع الهائل في المخلوقات وتصوِّر بإعجاز وهي – الكفيفة – لحظة انسلاخ الليل عن النهار.. سبحانك ربي.. أي منظر بديع للشمس وهي تجري لمستقر لها.. تنشر ألوان الصباح على الأرض فتوقظ الناس من سبات المنام.
ربما ليس من قبيل المصادفة أن أكون مع – لو أبصرتُ ثلاثة أيام – هذا الكتيب، الذي اقتطفت لكم بعض مقدمته وذلك بعد أن أنهيت إعادة قراءة الأيام لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
لو منحتُ – بقدرة قادر – نعمة النظر لمدة ثلاثة أيام.. تقول هيلين كيلر ( 1880- 1968 ) سيكون أول ما أقوم به هو رؤية هؤلاء الناس الذين جعلوا من حياتي شيئاً يستحق الذكر… سيكون علي أن أنعم النظر طويلاً في محيّا أستاذتي.. أريد أن أرى عينيها المليئتين بالعزم والقوة والرحمة والشفقة وهي تقوم بتربيتي وتعليمي.
أعرف صديقاتي وأصدقائي عن طريق لمس وجوههم.. أعرف شخصياتهم من خلال وسائل أخرى، ومع ذلك فإني محرومة من النفاذ إلى أعماقهم.. أليس معظمكم أيها المبصرون تدركون عن طريق الصدفة فقط معالم الوجوه وقسماتها، ثم تتركون ذلك يمر وكأنه لا يعني شيئاً.
كثير من أزواج عبروا عن خجلهم عندما اعترفوا أنهم حقاً لا يعرفون ألوان عيون زوجاتهم.. وما ذلك إلا لأنهم اعتادوا رؤية الأشياء التي لا تلبث أن تصبح رتيبة، والناس للأسف لا يعيرون في العادة اهتمامهم، إلا لبداية الأمور وبعدها تصبح العيون كسلى.. ينطفئ بريق ويخفت وهج وترقد الذاكرة في برزخ عساها تبعث من جديد.
في اليوم الثاني من أيام النور سأستيقظ مع الفجر لأرى تلك المعجزة الهائلة والطبيعة تتحول من عالم مطبق إلى عالم مشرق.. سيكون علي أن أنفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.. أن أرى الأشياء التي أعرفها عن طريق اللمس، أن أراها رأي العين.. أنتم الذين لكم عيون ترون بها ما تريدون.. كم منكم يزجي آيات الشكر والحمد والتقدير لمعجزة البصر التي ينعم بها.
لن يكون لدي وقت أضيعه في التأسف أو التمني فهناك الكثير من الأشياء التي لما تزل تستحق الرؤية وأنا في ثالث أيام منحة البصر وأخيرها.. سأقف في زاوية من الشارع مزدحمة أنظر الناس.. أرى بسمات تعلو وجوهاً وعزماً يشع من عيون وأرى كذلك العناء والعذاب فأشعر بكل ما يعيشون..
يحل الليل ويرخي الظلام سدوله وتزدحم الذاكرة بصور تلك الأيام الثلاثة وقد انقضت.. عذبة دافئة ألوانها وكل التفاصيل.. ليتها أبداً تكون.. ثلاثيات بها نحيا حق قدرها.. لا ينطفئ بريق لها، ولا يخفت وهج… ذاكرة تنبعث من جديد وصوت فيروز يعطر الصباحات.. أنا كل ما بشوفك، كأني بشوفك، لأول مرة حبيبي.