حلب ـ بيانكا ماضيّة
بعد أن أرخى الأمن والأمان ظلاله في حلب مدينة الأدب والطرب، وبعد غياب للمقاهي الثقافية التي كانت تجمع الأدباء والكتّاب والفنانين والإعلاميين، إذ أن الحرب دمّرت بعضها حتى أحالته إلى ركام، وبعضها الآخر تحوّل إلى محال تجارية وفقد أصالته الثقافية، وبقي منها ما يعد على الأصابع نتيجة الحرب الكارثية التي عصفت بالمدينة. عاد المقهى الثقافي لحلب بمقهى “الشباب” الذي اجتمع فيه الأدباء في الصيف، وبمقهى “نخلة الشهباء” الذي بدؤوا يرتادونه شتاءً.
يشكل هذا المقهى فضاء ثقافياً لالتقاء الأدباء الذين حالت الحرب دون اجتماعهم في المقاهي كما كانوا في السابق، إذ كانت مقاهي (السياحي، والموعد، والقصر، وقصر جحا، ومنتدى الشام) مكاناً يلتقي فيه الأدباء والشعراء والفنانين والإعلاميين، وكانت تطرح فيها الموضوعات الفكرية والثقافية والأدبية، أما اليوم فأصبحت النقاشات تدور حول شؤون وشجون الوطن، وحول الحرب وما خلّفته في النفوس، وعن الدماء التي أريقت، والمآسي التي تعرّض لها أبناء سورية بشكل عام، وحلب بشكل خاص.
اختار الأدباء موعداً للقائهم في ذاك المقهى يوم السبت من كل أسبوع؛ لتدور على إحدى طاولاته الحوارات والمناقشات والمساجلات فيما يخص الحياة العامة والحياة الثقافية. وفيما كانت الأديبات تعد على الأصابع في ارتياد المقهى الصيفي، أصبح المقهى الشتوي عامل جذب لغير أديبة من أديبات حلب، ونذكر منهن على سبيل المثال: رياض نداف، د. ملاك السباعي، ندى الدانا، د. ميادة مكانسي.
أغلب المشاركين في هذه الجلسة أدباء معروفون ومشهورون في حلب، وعلى رأسهم الأديب محمد أبو معتوق، ومحمد بشير دحدوح، والناقد محمد زياد مغامس، وبشار خليلي، وغيرهم ممن لهم نتاجاتهم الإبداعية، وقد كانت لهم، وماتزال، مشاركات أدبية في النشاطات الثقافية التي تقيمها مديرية الثقافة واتحاد الكتاب العرب، ودار الكتب الوطنية، والمراكز الثقافية المختلفة، وكذلك لهم مشاركاتهم في غير محافظة من محافظات القطر.
يدير هذه الجلسة الثقافية الأدبية أحد الأدباء، لتبدأ قراءة النصوص من قبل من يرغب في إطلاع المشاركين على ما كتبه حديثاً، أو قديماً، من شعر وقصة ونصوص نثرية وزجل، فيما تبدأ القراءات النقدية السريعة لهذه النصوص ممن يود إبداء الرأي والنقد من هؤلاء الأدباء .. وتتخذ هذه الجلسة الصفة الجديّة الرسمية، فلا مجال للأحاديث الجانبية، إلا ما ندر، إذ يتم التركيز على السماع ومن ثم إبداء الملاحظات النقدية ..
ما من شكّ في أن عودة الحياة للمدينة بعد حرب أكلت الأخضر واليابس فيها، جعلت الروح تدب في غير مفصل من مفاصلها، وهاهم الأدباء باجتماعاتهم ولقاءاتهم الأدبية يشكلون انطلاقة ثقافية لمسارات تحف حولها فراشات المحبة والمودة والألق لأدب غاب بعض الوقت عن الفضاءات المفتوحة ليكون حبيس الدفاتر، أو مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت البديل المعوّض لتلك اللقاءات الواقعية.
نتمنى ديمومة هذه المقاهي ولقاء الأدباء فيها، فحلب التي كانت تعج في الماضي بغير مقهى، تستحق أن يعود إليها هذا التألق الأدبي الثقافي، ليكون عنواناً لمرحلة جديدة يعاد فيها إعمار البشر قبل الحجر.