حلب ـ الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
تُرفرف راية الإصلاح دوماً…
بمجتمعٍ قضى حربَ الفسادِ
فيبني صرحَ أمجادٍ عظامً…
تؤسس للفضيلة بانقيادِ
الفساد ضد الإصلاح وهو عمل مادي أو معنوي يتجاوزُ فيه فاعله حدَّ الاعتدال فيضر بمصلحة الدولة أو المجتمع أو المواطن، وقد يقوم به فرد أو جماعة أو شخصية اعتبارية، وقد يمارسه طرف واحد أو أكثر، وهو من أشنع الجرائم البشرية وأكثرها تأثيراً على الفرد والمجتمع؛ ذلك أنها تهدمُ بمعولِ الخيانة أركان النفس الشريفة تماماً كما تقوّض أركان المجتمع النظيف.
إذ أن سيادة المفسدين تجعل من محبي العدل هدفاً لهم وفريسةً سهلة للانتقام منهم، ويشعرُ أولئك الشرفاءُ البؤساء بالإحباط ويفقدون الأمل في بناء وطنٍ نظيفٍ من الفساد والفاسدين.
لذلك فقد كان الفساد محرماً في كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية؛ فقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم بعدم محبته للفساد بقوله: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ [البقرة 205] ونهى عن السير في طريقه فقال تعالى: ﴿ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ﴾ [الأعراف 56] بل وأمر بالسير في نقيض الفساد فقال جل من قائل: ﴿ وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف 142].
وتحضرني حكاية عن الفساد الذي يهدر الطاقات والإمكانات حيثُ روي عن سلطان في الزمن الماضي كان يتفقد أرجاء مملكته فمرَّ على قرية ووجد أهلها يشربون من الساقية مباشرةً، فأمر بوضع (جرة كبيرة واسعة الفم) ليسهل عليهم شربَ الماء؛ ثم مضى ليكمل باقي جولته.
وتطبيقاً لتعليمات السلطان، أمر المسؤول في تلك القرية بشـراء جرّة ووضعها على جانب الساقية ليشرب منها الناس.
وبعد أن وصلت الجرّة إلى المكان، قال أحد الحاشية: هذه الجرٌة مال عام وعهدة حكومية، لذلك لا بد من توظيف شخص يقوم بحراستها، وكذلك لابد من موظف آخر ليملأها كلما أصبحت فارغة؛ ومن غير الممكن أن نكتفي بهذين الموظفين إذ لا بدَّ ممن يتناوب معهما في العمل؛ فقام بتوظيف ستة أشخاص لخدمة الجرة يتناوبون كل ثماني ساعات لحراسة وملء الجرة.
ثم نهض رجل آخر من حاشية المسؤول وقال: هذه الجرّة تحتاج إلى حمالة وغطاء وكوز، لذا لا بد من تعيين مدير فني مختص في الصيانة لعمل الحمالة والغطا والكوز.
وهنا بادر شاب آخر وقال: لا بد من إنشاء إدارة مالية تنظم حسابات عمل الجرة ورواتب العاملين فيه يرأسها: “مدير تنفيذي للشؤون المالية” وتعيين محاسبين بها ليصرف للعمال رواتبهم.
ثم جاء بعده من يقول: ومن ذا الذي يضمن أن العمال الموكلين بالجرة سيعملون بانتظام؟ فتم إنشاء إدارة لشؤون العاملين وعمل دفاتر حضور وانصراف للموظفين وعين عليه مدير عام تنفيذي للموارد البشرية.
ثم أضاف وفي حال حدوث بعض التجاوزات أو المنازعات بين العمال، فمن سيفصل بينهم لحسن سير عمل الجرة وسقاية الناس؟ إذاً لا بد من إنشاء إدارة شؤون قانونية للتحقيق مع المخالفين والفصل بين المتنازعين.
وبعد أن تم تكوين كل هذه الإدارات، جاء موظف صاحب شهادات عليا وقال: لا يجوز ترك العمال يتصرفون على هواهم، فمن سيرأس كل هؤلاء؟ الأمر يتطلب تعيين موظف كبير ليدير العمل والعمال ويرعى مصالح الشعب. فتمّ تعيينه مدير عام لشؤون الجرّة وبعد مرور سنة، كان السلطان يمر كالعادة متفقداً ، فوجد مبنىً فخماً مضاءً بأنوارٍ كثيرة وتعلوه لافتة كبيرة مكتوب عليها “الإدارة العامة لشؤون الجرّة” فتساءل السلطان مندهشاً عن سرِّ هذا المبنى وهذه الإدارة الغريبة التي لم يسمع بها من قبل…
فأجابه المسؤول في تلك القرية بأنّه لضمان سير المرفق الهام الذي أمر بإنشائه في العام الماضي وهو “الجرّة”، ذهب السلطان لتفقد الجرة، فكانت المفاجأة أن وجدها فارغةً ومكسورةً وفي داخلها “فأر ميت” وبجانبها خفير وسقّاء نائمين، وبجانبهما لافتة مكتوب عليها: تبرعوا لإصلاح الجرة.
إن الفسادُ في وطننا الغالي ظاهرةٌ مقلقة جدّاً لا سيما بعد تجاوز سنوات المُؤامرة الكونية التي عصفت في جنبات وطننا؛ إذ وُجدت فئة من الناس لبست ثوب المزايدة على حبّ الوطن وركبت موجة الأزمة؛ وهم في حقيقتهم أخطر من الذين شهروا السلاح في وجه وطننا؛ لأنهم يحيون في صفوفنا ويُعملون سلاح الفساد في جسد وطننا؛ وأمثال هؤلاء كشف الله تعالى للبشرية زيفهم وكذبهم فقال سبحانه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [:204 – 205].
عديدة هي طُرق مكافحة الفساد من سجنٍ وغرامةٍ وفصلٍ من العمل وغيرها من العقوبات التي قد تسنّها القوانين؛ ولكنّ أنجعها في نظري هي زرع غرسة الصلاح في نفوس المفسدين؛ فإذا نجحت الزراعة نكون قد اكتسبنا مكافحاً خبيراً بمسارب الفساد وأهله. إن مكافحة الفساد تحتاج إلى الكثير من الشجاعة والقوة والصبر والمثابرة؛ هذه المعاني التي أسأل الله تعالى أن يتحلى بها مجتمعنا بأسرِه.