حلب ـ طارق بصمه جي
هو الفنان “محمد سنكري” .. أو كما يُعرف باسمه الفني (فؤاد ماهر ) ولد في حلب عام 1975 ضمن حي عريق يدعى “القصيلة” .. فتشبعت أذناه من صدى النغم الأصيل الذي كان يسمع عبر تلك الأزقة ومن مذياع سيارة والده “أحمد” آنذاك ..
لم يكن يحوي ذاك المذياع إلا شريطاً قديماً واحداً بقي عالقاً في تلافيف ذاكرته .. هو ذلك الشريط المعتّق الذي كان يحوي حينها تسجيلاً فريداً لإحدى حفلات العملاق الراحل “محمد خيري” ..
من هنا بدأت مسيرة النضوج الفني والسمعي لعندليب حلب فؤاد ماهر، لم تمنعه معارضة أهله (في البدايات) دخوله عالم الغناء، فخاض هذا المجال في مدينةٍ عُرفت بأنها مهداً للكبار والمتميزين ..
اشتغل “ماهر” على موهبته كثيراً فطوّرها ثم صقّلها، وكأي بداية بسيطة بدأ مسيرته الفنية في الحفلات الخاصة والأعراس الصغيرة .. وكونه يمتلك معظم مقومات النجاح الفني .. بات لاحقاً رمزاً من رموز الطرب والغناء في تلك المدينة الأقدم عبر التاريخ .. فؤاد ماهر .. الذي أسمته الفنانة القديرة ميادة الحناوي “عندليب حلب ” وضع نصب عينيه منذ الطفولة هدفاً يتلخص ( بالحفاظ على اللون الطربي وعدم الحياد عنه مهما تغيرت الظروف ) ..
بدأ “ماهر ” تطوير موهبته حين تلقى دروساً عند “عاطف خياطة” عام /1991/ فكان هذا الأستاذ نبعاً حقيقياً نهل منه الكثير .. إضافة الى “سامي سنكري” و “أحمد زكور”، كما وعمل “ماهر” مع الفنان “نهاد نجار” الملقب بموسيقار حلب (الذي كان له فضلاً هاماً في انطلاقته الفنية) ليصبح مع السنوات العديدة أخاً له وصديقاً يلازمه في كل حفلاته و يستشيره في أمور بداياته الفنية .. نهل “ماهر” أيضاً من خبرة الفنان “سمير جركس” الملقب “بشيخ الطرب” فكان الأخير من أحد داعميه في مسيرته الفنية ..
وعند سؤالي عن تفاصيل إضافية حول صداقته مع الفنان سمير جركس كوني أعرفها عن كثب :
فأجاب مبتسماً :
“مع بداياتي الفنية أواخر ثمانينيات العام المنصرم كنت انتظر الفنان سمير جركس أمام بيته في حي الجديدة لساعات وذلك كي ألقي السلام عليه فقط .. ومع الأيام طبعاً التقيت به عن كثب، فأعجب بصوتي كثيراً و أمسك بيدي وقدم لي الدعم فبقيت ملازماً له .. صديقاً صادقاً وأخاً محباً ومخلصاً حتى هذه الأيام ..”
تأثر “ماهر” أيضاً بأصوات القدامى كأمثال : “صبري مدلل” و”صباح فخري” و “فؤاد خانطوماني ” و”حسن حفار ” .. إضافة إلى “محمد عبد الوهاب” و “فريد الأطرش” و”وديع الصافي” و “أم كلثوم ” إلا أن مدرسته الفنية كانت ولم تزل هي مدرسة الكبير الراحل “محمد خيري” وبتلك الخطوات مجتمعة ،انطلق “ماهر” وصنع لنفسه لوناً جميلاً دخل به عالم الغناء العربي .. فانتسب بدايةً إلى نادي شباب العروبة بحلب والتقى حينها كبار العازفين والموسيقيين الذين استثمر وجوده معهم فتعلم منهم تقنيات الغناء المحترف ليقدم بعدها العديد من الحفلات الغنائية باسم ذلك النادي، كما انتسب لاحقاً لفرقة “أورنينا” برئاسة الأستاذ “محمد قدري دلال” تلك الفرقة التي قدمت حينها العديد من الحفلات منها : حفل تكريم الملحن القدير “بكري كردي” إضافة إلى حفلات عديدة في سويسرا و فرنسا و اليابان .
وهنا يضيف “ماهر” قائلاً : ” بصراحة أريد القول أن من يلتقي بقامات كبار , و يحظى بفرصة العمل معهم .. عليه أن يعلم أنه ذو ( حظ عظيم ).. لأن كمية المعلومات التي كنا ننهلها منهم كبيرة جداً .. فكل حركة موسيقية كانوا يقومون بها أثناء الحفلات هي درس عمليٌ ونظريٌ في آن واحد ” .
كانت الانطلاقة الفعلية للفنان فؤاد ماهر من بلده الأم سورية فهي الأرض والتراب الذي عشق ..
فأتت أول مشاركة له في مهرجان الأغنية السورية السادس عام 1999 حين نال جائزة ( الأورنينا الذهبية ) وذلك عن أجمل أغنية طربية .
تعاون “ماهر” في تلك الفترة مع الباحث “محمد قصاص” أثناء انطلاق فرقته “شيوخ الطرب” فقدم معه أربع حفلات .. وبعدها انهالت عليه عروض الحفلات الداخلية والخارجية وأصبح من الصعب أن يلتزم ببرنامج الفرقة .. فسافر حينها إلى فرنسا لمرات عديدة قدم فيها حفلات منفردة مع فرقته الموسيقية ..
كما قدم العديد من الحفلات في كل من لبنان ومصر والأردن فتم تكريمه في مهرجان الرواد هناك ..
شارك “ماهر” أيضاً في مهرجان (معهد العالم العربي) في باريس و قصر المؤتمرات.. إضافة إلى ( مهرجان الارتجال ) في تلك المدينة ، فنال فيه المرتبة الثانية على مستوى المشاركين من الوطن العربي ،كما شارك أيضاً في عدد من المهرجانات العربية المغاربية منها : “موازين” و”فاس” و”الرباط” .
أما عن أجمل المواقف الطريفة التي تعرض لها خلال مسيرته الفنية .. حدثنا “ماهر” مستطرداً :
” أثناء تواجدي في باريس دُعينا إلى أحد المطاعم المشهورة في تلك المدينة لتناول طعام العشاء مع الأصدقاء .. فلاحظت بعد انتهاء العشاء أن شخصاً بلباس أسود أنيق اقترب مني مرتدياً ربطة عنق صغيرة تدعى “ببيونة” وبقي واقفاً خلفي .. هنا استغربت ذلك الموقف وهممت لإعطائه أحد الصحون الفارغة من الطاولة .. ظناً مني أنه النادل يريد أخذ الصحون ..!!
فإذا بقدم صديقي تحت الطاولة تنبهني بعنف أن هذا الشخص .. هو رئيس الفرقة الموسيقية الفرنسية وليس النادل …. !! “
وبالانتقال إلى صعيد الموسيقى التصويرية كان لماهر مشاركات غنائية ضمن مسلسل “قانون ولكن” إضافة إلى مسلسل “حوش العيلة” .
أما على صعيد الأغاني الخاصة .. فكان من الطبيعي أن يكون لصوت ” فؤاد ماهر ” أعمالاً تبين مدى التزامه باللون الطربي إضافة إلى طريقة تداركه للأذواق الجديدة التي باتت تتطلب تجديداً في الجملة اللحنية الموسيقية كان منها أغانٍ مثل ( من فضلك , شيء انكسر , من بابه لمحرابه ) .. إضافة إلى عددٍ من الأغاني العربية القديمة أعاد “ماهر” توزيعها وأدائها بطريقة جديدة مثل ( تحية ود – ضاع الهوى – يا مليح اللمى ) التي هي من كلمات وألحان ( الموسيقار الجزائري نوبلي فاضل ) .
وعلى صعيد الجديد المرتقب من أغانيه الخاصة تحدث ماهر قائلاً : أنا حالياً بصدد الانتهاء من تسجيل عدد من الأغنيات الجديدة منها : ” منين أبوسك” وهي من كلمات وألحان فتحي الجراح .. و أغنية ” نعوة غرامي” من كلمات الشاعر صفوح شغالة وألحان الملحن اللبناني نور سعد ..”
أجرى “ماهر” العديد من اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية منها قنوات سورية و عربية عديدة .. وعند سؤالي له عن أحب تلك اللقاءات إلى قلبه ..
أجاب مسترسلاً :
” كان من أحبها إلى قلبي تلك التي أجريتها في ( إذاعة حلب ) تلك الإذاعة التي تأسست عام 1949 و تخرج منها العديد من الفنانين العظام مثل( محمد خيري و صباح فخري ) ففي كل زيارة لها .. أشتم رائحة العراقة الموسيقية والفن الحلبي الأصيل المنبعث من تلك الأشرطة الأسطوانية التي باتت تعانق ذاكرة الأيام فلصدى تلك الإذاعة حيز كبير من ذاكرتي .. حين كان يلامس صوتها كل ركن من أزقة حلب العتيقة .. فهي كانت ولم تزل عنواناً للعراقة والتجدد و منبراً ينطلق منه كل فنان حلبيّ شاب “.
ولدى سؤالي : هل يستطيع المطرب أو الموسيقي عدم الغناء أو العزف لمدة تتجاوز الأسبوع ؟؟
أجاب موضحاً :
“بالنسبة لي شخصياً .. الموسيقى الأصيلة تجري في دمي يومياً ..فهي أضحت مهنتي وإحدى هواياتي ونشاطاتي الاجتماعية .. فها نحن مازلنا نجتمع كل فترة في منزل أحدٍ من الأصدقاء نتقاسم هواياتنا سوية فتثمر أحاديثنا أغانٍ وقصائد تصحبها أنغام شجية من أوتار أصدقائنا المتواجدين ..”
وأضاف قائلاً : ” ظاهرة الصالونات موجودة في أغلب البيوت الحلبية فمنها الأدبية ومنها الموسيقية .. لكن أهم نقطة أحبها في تلك اللقاءات .. هي أننا نلتقي دون تنسيق مسبق فنجتمع على المحبة والصدق فقط .. ! دون أي مصالح أو شوائب قد تتواجد في المجالس العادية الأخرى ” فحين يجتمع الموسيقيون المحبون .. تصمت لغة الشفاه .. و تتحدث لغة الأوتار والأرواح والقلوب .
ولدى سؤالي عن المعوقات التي تواجه الفن والغناء الأصيل في حلب /بشكل عام/ ؟
تحدث “ماهر” قائلاً :
” يعاني المطرب الحلبي من مشكلة تمويل الإنتاج، فأنا كغيري من المطربين أنتجت ألبوماتي على نفقتي الخاصة دون تلقي أي دعم أو ترويج إعلاني، كما أن المطرب الحلبي يعاني أحياناً من تهميشه من قبل بعض أصحاب القرار على الصعيد الفني ..
فحين يطغى مبدأ العلاقة الشخصية على مبدأ الأحقية في الصعود على المسرح .. تكمن هنا الطامة الكبرى ،فهناك أصوات جميلة لا تلقى الدعم الكافي والرعاية على مستوى المحافظة فيتم هنا نسيانها .. أو تناسي إدراجها في قوائم المهرجانات والحفلات على مسارح المدينة “.
الجدير بالذكر أن الفنان “فؤاد ماهر” له مشاركات عربية عديدة .. منها في مهرجانات “جرش” و”طبرقة” و”سوسة” ، كما تم تكريمه في مهرجان بصرى و مؤتمر الرواد والمبدعين العرب .. إضافة لمشاركات عديدة بحفلات مع فرقته الموسيقية في دار الأوبرا بدمشق .. كان أبرزها حفل العام 2016 حين كتبت عدد من الصحف السورية عن أدائه المميز للأدوار الموسيقية الصعبة و إحساسه العالي في الكلمة وذلك حين أجهش بالبكاء فجأة على خشبة ذاك المسرح تزامناً مع أدائه لأغنيته الجديدة آنذاك ” عجب صمودك يا حلب ” ..
الفنان فؤاد ماهر متزوج وأب لثلاث صبية وابنتين .. لم يرض أن يغادر معشوقته حلب خلال سنين الحرب .. فبقي مقيماً فيها .. يرسم بصوته أملاً موسقياً لدى أفئدة الصامدين .. إيماناً منه بحتمية انتصار هذا الوطن على حقد وظلام الإرهاب ..