حلب ـ الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
تمضي السنون كماء النهرِ لا تقفُ…
فلا تراها على الإنسان تأتلفُ
لعلنا إن نجحنا في زراعتها…
خيراً وحُباً بكأس العزّ نرتشفُ
كعادة الأعوام المتكررة قد ودّعنا عاماً واستقبلنا عاماً جديداً، زاد عمرنا ونقص في آنٍ واحد، وهذه العبارة ليست من المُفارقات أو اجتماع المتضادات بل أعني بها أننا كبرنا عاماً وبذلك قد زاد عدد السنين التي عشناها، ولا نزال نكبر عاماً تلو عام حتى نصل إلى النهاية في هذه الدنيا، غير أن العمر الذي سوف نحياه والذي لا يعلمه إلا الله ( ستون، سبعون، ثمانون، مئة …) قد نقص عاماً، ولا يزال في تناقص حتى ينتهي الأجل المكتوب لكلِّ فردٍ فينا إذ { لكلِّ أجلٍ كتاب } كما قال الخالقُ العظيم.
ما أحوجنا ونحن نودّع ونستقبل الأيام والأشهر والأعوام أن نرجعَ إلى أنفسنا، نسترجعَ شريط حياتنا الفائتة ليس لمجرّد التذكّر، بل للتفكّر، لنستعرض ما فات فنُصلح الأخطاء، ونقوّم الاعوجاج، ونؤكّد على الأفعال الصحيحة والمستقيمة ونُرسّخ فعلها في ذواتنا ومجتمعنا.
لنسأل أنفسنا عن تطلعاتها عن أهدافها عن قيمتها في هذه الحياة، هل حققنا شيئاً، هل كان لنا ميزة عن غيرنا ممن يأكل ويشرب وينام، هل قمنا بعمل مفيد، هل حرصنا على إرضاء ضمائرنا، هل نفعنا مجتمعنا، هل أرضينا خالقنا، أسئلة كثيرة تقبعُ في خبايا النفس تنتظر أن نواجهها وتكون إجاباتنا عنها إيجابية.
وليس القصد من هذه الوقفة مع الذات الدعوة إلى الاكتئاب أو الركون إلى الانطواء على العكس إذ المرء عندما يقيّم أفعاله الماضية، يضفي على حاضره سمات جديدة، ويولد كل عامٍ من جديد ولادةً تحمل خبرة عمره الماضي وتطلعاته السابقة، وأمله بمستقبلٍ يسعى إليه.
وعلى كلٍّ فإن من فهم معنى الوجود بَرْمَجَ حياته وفقَ هذا الفهم، فمن نظر إلى الحياة على أنها للمُتعة والتسلي غير من ينظر إليها على أنها للبؤس والشقاء … وكلاهما مخطئ، فالحياة مزرعة للأفعال الصالحة، خُلقنا في هذه الدنيا لنَجوزَها لا لنحوزها على ما في الحيازة من متعة وإرضاء لغرور النفس البشرية، غير أن ما سيحوزه المرء بعدها أعظم وأكبر على كافة المقاييس. نعم إن حياتنا بأسرها وقتٌ للبِذار، للزراعة، والحصاد يأتي بعدها، {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره}.
على أنه لا مانع من السعي في هذه الحياة لتكون أكثر راحةً وسعادةً، إذ أن الدنيا وإن كانت داراً للعمل فلا بدَّ أن تتوفر فيها عناصر الراحة والفرح والسعادة التي توجد في رحاب هذه الحياة وقبل أن نجتاز أسوارها ماضين نحو المصير الخالد، نعم إنها موجودة لكنها مُقترنة بشعور الرضا؛ قد تختزلها مواقف، وقد توسّعها أفعال، إذ ربما وُجِدت السعادة في لحظة أو نظرة أو عبرة، وقد توجد في أفعالٍ متكررة، أو أحوال متغيرة، أو شؤون متبعثرة.
رغم أنَّا نودّع عاماً بالحديث عن الوقفة مع الذات وفهم حقيقة الوجود والسعي للسعادة في الحياة؛ لكنَّا نودِّعه وهو مكتظ بأحداثٍ كثيرة منها ما هو خيّر ومُشرق نرجو أن يتكرر ومنها ما هو بؤس وظلام لا نرغب باستمراره ولا نحب أن نقف عنده إلا لنَعْتَبر؛
يودِّع شعبنا العظيم هذا العام ويستقبل عام الانتصارات، يودع عاماً وهو يَعِدُ بألا ينسى ما جرى، لن ننسى قوافل الشهداء الذين خضبوا بدمائهم أرض الوطن، كما لن ننسى هجمات الأعداء المتكالبة علينا، لن ننسى من ضحّى في الأزمات بكلِّ شرفٍ وحُب، كما لن ننسى من استثمر مِحنَةَ الوطن بكلِّ فسادٍ ونذالةٍ وحقد وجشع، لن ننسى من وقف إلى جوارنا كما لن ننسى من طعنَ أمتنا طعنات الغدر والخيانة في الظهر والخاصرة، ونستقبل عاماً جديداً نطلب من الله ألا يكون كسابقه، وألا يكون لرعاة البقر ولا لرعاة الخنازير ولا حتى لمن تنكّر من رُعاة الغنم والأوباش فيه دور أو هيمنة على أحد.
لا بدَّ لي في الختام أن أسأل الله العلي الكبير في هذا العام الجديد وفي كل عام أن يكلأ وطننا ببالغ عنايته وحفظه، ويُغدق عليه سحائب رحمته ورِفْقِه، وأن يُظهر فيه تجليات إحسانه وعفوه، وأن يجعله عام خيرٍ وسلامٍ وحبٍّ ورخاء لسائر أبناء الوطن بكلِّ نسيجه وكافّة مكوّناته. وكلُّ عامٍ والكون أكثر سلاماً وخيراً ووئاماً.