حلب ـ الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
كان عصر يوم الجمعة الموعد الأقدس في الزاوية الهلالية التي يُقام فيها منذ عقود طويلة مجلس الذكر الإلهي على الطريقة القادرية الخلوتية؛ وكانت الدروب المتعرجة الموغلة في القِدم تتناغم مع السائرين إليها عبر صفاءٍ وسكون متميزين وهم يعبرون فيها في حي الجلوم إلى روضة من رياض الجنة “الزاوية الهلالية” والتي كُتب على قنطرة بابها هذين البيتين:
رب هب لي مكانة قادرية
وتقبل ما شدته للبرية..
روضة العلم والطريق أرخ
فهي حق تكية يوسفية
بعد دخولنا إلى الزاوية الهلالية سنرى في صحنها السماوي تلك الساحة التي كانت تحوي قبور الشيوخ الهلاليين والتي دمرها التكفيريين الظلاميين قبل خروجهم من مدينتنا “حلب الأتقياء”؛ ورغم تدميرهم للقبور غير أن الزائر يشعر بخفوق تلك الأرواح من حوله؛ ثم ندخل الزاوية وهي عبارة عن قاعة مربعة، اصطفت على جوانبها أبوب الخلوات الخشبية في طبقتين، علوية وسفلية، فإذا فتحت أحد هذه الأبواب، فأنت أمام غرفة صغيرة، لا يتجاوز طولها المترين، أما عرضها فأقل من المتر الواحد، وقد أعدت هذه الخلوات لإقامة المريدين المختلين فيها (الخلوة الأربعينية) في فصل الشتاء، وقد قامت هذه الخلوات على أطرافها الجنوبي والشرقي والغربي، وترك طرفها الشمالي لمدخل الزاوية ولنوافذها على جانبيه.
يتصدر الزاوية محراب خشبي صغير، يقف فيه شيخ الزاوية جمال الدين الهلالي أثناء الذكر، غير أني في يوم الجمعة الماضي دخلت الزاوية الهلالية ولكني لم أجد الشيخ جمال الدين مكانه؛ بل كان في قبره في صحن الزاوية السماوي؛ لقد رحل عن هذه الدنيا وجاور أسلافه من شيوخ الزاوية الهلالية.
لقد دخلتها مُعزياً كآلاف الأشخاص المحبين الذين دخلوها في ذلك اليوم؛، لقد مرَّ ما يزيد على النصف قرن عن آخر مرّة فُجعت فيها الزاوية الهلالية بشيخها حيث كانت وفاة الشيخ عبد القادر الهلالي عام (1966م) وتولى الزاوية من بعده الشيخ الطبيب العالم جمال الدين الهلالي؛ وها هو يغادرنا في مساء يوم الخميس السابع عشر من كانون الثاني “الجاري” ليُدفن صبيحة الجمعة بالقرب من والده وليتماهى مع أجزاء الزاوية روحاً وجسداً كما كان في حياته؛ رحمه الله تعالى.
لقد كانت مسيرة حياة الشيخ جمال الدين ذاخرة مُفعمةً بالإيمان حيث وُلد في حي الجلوم العتيق، في مدينة حلب سنة (1354هـ – 1935م).
نشأ الشيخ جمال الدين في أسرة توارثت التقى والصلاح والذكر ومشيخة الزاوية الهلالية عبر سلسلة من العلماء الأكابر.
أخذ في تلقي العلوم منذ نعومة أظفاره فتعلم تلاوة القرآن الكريم ثم التحق بالمدرسة الإبتدائية وتابع دراسته إلى أن حصل على الشهادة الثانوية الفرع العلمي سنة (1958م) وهو إلى جانب ذلك كان مستمراً في تلقي العلوم الشرعية على والده وغيره من العلماء، والتحق بعد حصوله على الشهادة الثانوية بجامعة في ألمانيا الغربية حيث درس في كلية الطب؛ وتابع دراسته حتى سنة (1966م) حيث عاد إلى حلب قاطعاً دراسته بسبب مرض والده ووفاته في حينها.
وكُلّف بالإمامة والخطابة في الزاوية الهلالية بعد وفاة والده؛ وسافر بعد ذلك إلى إيطاليا لمتابعة دراسة الطب حتى عام (1973م) ليعود بعد ذلك إماماً وخطيباً للزاوية الهلالية؛ وشيخاً مرشداً للمريدين وقائماً بمجلس الذكر الأسبوعي بعد صلاة العصر إلى المغرب من كل يوم جمعة.
وكان رحمه الله تعالى إماماً في العلوم العقلية من فلك وطب ورياضيات وكيمياء إلى جانب معرفته الجمّة بالعلوم الشرعية.
تمتع الشيخ جمال الدين بسجايا طيبة وخصال حميدة منها التواضع؛ وصدق اللهجة واللطف ودماثة الخُلق إذ كان متخلقاً بأخلاق الصالحين؛ حسن المجالسة؛ طيّب المعشر؛ سخي النفس ندي الكف؛ يحيا حياة الزاهدين.
وكانت له العديد من المشاركات والندوات التعريفية عن التصوّف وفصول الذكر في الزاوية الهلالية؛ وكانت مشاركته في فعالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية سنة (2006م) متميزة.
رحم الله الشيخ الزاهد، والمربي الرحيم، والطبيب العالم جمال الدين الهلالي وأسكنه فسيح جناته.
قد يعجبك ايضا