بقلم : الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
قلبي يطيرُ لكعبة الرحمن..
متشوقاً ولروضة العدنانِ
يا ربنا منعوا العباد لحجّه…
نشكوا إليك مظالمَ الإنسانِ
أنت الوحيد نصيرنا ووكيلُنا…
فاختم لنا بالخير والإحسانِ
روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله (ت 181هـ) وهو من أجلّ أهل زمانه علماً وزهداً وفضلاً كان يُكثر من الحج؛ وفي عامٍ من الأعوام خرج مع قافلة من أصحابه قاصداً الحج وبينما هو في طريقه دخل الكوفة وكان يصحب معه الزاد والدجاج الحي ليُذبح في رحلة الحج؛ فماتت دجاجة معهم فأمر بإلقائها في مزبلة، وسار أصحابه أمامه وسار هو وراءهم، فلما مَرَّ بالمزبلة إذا بامرأة قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت تلك الدجاجة الميت؛ فتبعها فوجدها تجلس في مكان خرب وتُعد تلك الدجاجة الميتة لتأكلها هي وأولادها.فقال لها: أيتها المرأة ألم تعلمي أن الله تعالي حرم أكل الميتة؟ فقالت له: ابتعد عني يا هذا. فسأل عنها فعلم أن زوجها توفي وترك لها أطفالاً صغاراً ولا تملك ما تنفق عليهم، فما كان منه إلا أن أرسل المبلغ الذي أعده للحج إلى تلك المرأة لتنفقه على نفسها وعيالها، وعزف عن حجه التطوع.
وبعد أن انتهي موسم الحج جاءه الحجيج يهنئونه ويصفون له كيف التقوا به في الأماكن المقدسة، وقالوا إن الزحام منعنا أن نلتقي بك ولكننا شاهدناك في مكان كذا وكذا.ففاجأهم ابن المبارك بأن قال لهم متعجباً: ولكنني لم أذهب للحج هذا العام.
وفي المساء جاءه من يقول له بالمنام: يا ابن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى وسترك كما سترت اليتامى، إن الله سبحانه خلق ملكاً على صورتك، كان ينتقل مع أهل بلدتك يؤدي مناسك الحج عنك؛ وإن الله تعالى كتب لكلّ حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.
لعلها قصة أتخذها مدخلاً لأواسي نفسي وكل إنسانٍ حزين؛ إذ دائماً هناك ما يستقر في ذاكرة الإنسان مما قرأ أو سمع أو شاهد يتذكره عندما يمر به ما يشابهه في الواقع الذي يعيشه؛ وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية: {وذكّرهم بأيام الله إن في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ شكور} [إبراهيم:5] ونلحظ التحفيز النبوي لاستثمار الأيام المباركة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن لله في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها ) رواه الطبراني.
وها هي العشر الأُوَل من ذي الحجة قد شارفت على نهايتها بأيام العيد وقد اعتدنا عليها عبر سنيّ حياتنا أنها أيام تحضير للذهاب لبيت الله الحرام؛ وفي صميم معتقداتنا أنها من أعظم الأزمنة التي يَحسُنُ فيها التقرّب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات بنصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر….) رواه الترمذي.
ولعلها دعوة لضمائرنا لنجتهد في هذه الأيام بأنواع الإحسان لجميع المخلوقات لا سيما وأننا في الجمهورية العربية السورية قد مُنِعنا من الحج إلى بيت الله الحرام للعام الثامن على التوالي لأسبابٍ سياسية غير مُحقة.
وهنا أريد أن أتسائل: متى كانت فريضة الحج مُسيّسة تتحكّم بها آراء الأُمراء والملوك؟ متى كانت شريعة الله وسيلة في أيدي السياسيين؟ وكيف يمكن لهم أن يمنعوا الآلاف من السوريين من التوجه لأداء هذه الفريضة المقدسة.
إن الحج فريضة من فرائض الإسلام وهي خالصة لله تعالى قال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [سورة البقرة:196] فلا يجوز منعها وليس لأحدٍ أن يمنع أحد من أداء فريضة دينية مهما كانت أسبابه فإن فعل ذلك فقد استحق صفة الظلم والصد عن سبيل الله وبالتالي استحق العاقبة التي بيّنتها الآية وهي الخزي والعذاب الأليم.
ونحن في سورية وإن مُنعنا من الحج إلى بيت الله تعالى من قِبل البشر فإن نوايا شعبنا يعلمها ربّ البشر وهو الذي يُثيب عباده؛ فهناك أعمال تكتب لهم ثواب الحج وإن لم يحجوا. على النحو الذي مرّ آنفاً في قصة ابن المبارك.
وفي بلدنا الحبيب هناك أُناس كُثر يقومون بأعمالٍ توازي بل وتزيد في ثوابها على ثواب حج النافلة لبيت الله تعالى، فيواسون فقيراً ويكفلون يتيماً ويرعون مُسناً ويبنون بيتاً تهدم، يرسمون البسمة على وجوه الحزانى والثكالى؛ فلله الحمد أن جعل مفاتيح خزائن رحمته بيده دون غيره وإلا لهلك الناس؛ فله الحمد وعليه التكلان.
رقم العدد ١٥٧٦٤