الجماهير / بيانكا ماضيّة
هناك عند ملتقى التقاطعات التي لا ترى، كان العالم في غفوة لم يصحُ منها إلا بعد الخراب..
الحرب تجعلك حاملاً في ذاكرتك ملامح لم تعتد أن تراها في وجوه الكثيرين، تظهر تلك الملامح إثر المواقف التي تجعل وجهك حاملاً ملامح الدهشة حتى لكأنك حين تحصل تشعر بصفعات لها دويها في داخلك.
بعد الحرب تراوحت مواقف الناس بين ضفتين: ضفة المحبة والإيثار وضفة الأنانية والتفرد !
منذ سنوات خلت، وفي أثناء الحرب، عدتُ إلى حلب في زيارة بعد انقطاع عنها لمدة ثلاث سنوات، وكنت أتفحّص الوجوه، لم يكن ليفاجئني أفراد الضفة الأولى، لأنَّ أخلاقهم الحميدة أظهرتها الحرب بشكل أكبر في المواقف التي تحتاج أمثالهم، لكن من صعقني وجعلني أعود من حلب محمّلة ببعض من الانكسار هم أفراد الضفة الأخرى على قلتهم ، كانت الأنانيّة تنهش في أجسادهم ، فهل كانت العودة إلى حلب لاكتشاف هذه الوجوه المقنَّعة؟!
كنت ألتقط الصور للأبنية التي طالتها قذائف الخراب، لكن الصور التي التقطتها للنفوس الضعيفة حتى باتت رمالاً هشّة كانت الأكثر بقاءً في الذاكرة. لقد تجمّدت اللحظة في تلك الصور وتجمّد شيء ما في داخلي. لقد باتت تلك الصور باردة جداً لدرجة لم أكن أتوقع وصولها إليه: تحت الصفر.
للأسف، هذه هي نتائج الحرب، وكنت كلما صعقت بموقف ما أحيل هذا الخراب الذي ألمسه على الحرب. ولكن صورة المدينة كانت الأكثر رسوخاً في الذاكرة، فرغم خراب المدينة الخارجي كانت حلب وفية بهوائها ورونقها الداخلي. لم تتغير حلب بالنسبة لي، فالأبنية لا يمكن وحدها أن تشكل مدينة، ولا الشوارع ولا الحدائق. هناك ماهو أعمق من هذا الظاهر، إنه الباطن، باطن المدينة، وهو وحده الذي حملته في داخلي، وعدت لأرى شكلاً آخر للمدينة لكن باطنها ظل كما هو، ظل متشرّباً تربتها، ومنثوراً في فضائها، ومتسلّقاً أغصانها، وفارداً جناحيه في سمائها.
ما هو هذا الباطن “المضمون”؟! لعل هذا السؤال الذي قد يطرحه المرء ويعجز عن إيجاد جواب له، سيجد جوابه ضمن المدينة، فحلب اليوم هي نفسها حلب قبل الحرب، ولهذا ما إن وطأت قدماي أرضها حتى جعلتني أطير، كانت الفرحة لا تسعني حين كنت أتنقّل في الشوارع التي اشتقت إليها، ولم تكن القذائف قد توقفت عن حلب، فرغم الحرب والحزن والألم هناك فرح خفيّ يظهر حين ترى حلب! يطالعك في الفضاء المحيط بها، في كل ذرة هواء تتمسك بأنفاسنا. ولكن إن أراد المرء أن يجسده في كلمات أو أن يجد مصطلحاً مناسباً له فسيعجز؛ لأن غير المرئي هذا عصيٌّ على أن يجعلك تقبض عليه، لكنك تعيشه. هو، في الحقيقة روح، وروح المدينة لم تتغير. لقد تغير الشكل وبقيت الروح موسيقا حلبية بامتياز.
رقم العدد 15802