الجماهير / حميدي هلال
كنت وقتها في السنة الثالثة من عمري، لم أكن أدرك ماذا يقول المذياع من انتصارات الجيش العربي السوري على الجبهات مع العدو الصهيوني، كان وحدهم الشيوخ والطاعنون في السن الذين يستمعون للمذياع بكل اهتمام وإصغاء لمتابعة احداث ملحمة تشرين البطولية.
ما كنت أدركه أن اخي الكبير كان يخوض الحرب، كان اختصاصه العسكري رامي مدفع م ط ، وهدفه موجه للطيران المعادي .
أمي قلقة وتترصد كل حركة وسكنة تصدر هنا أو هناك ، ووالدي مع بضعة من كبار السن من الجيران يتحلقون حول المذياع بالتصاق شديد ، يتلقفون كل خبر عن سير المعارك ، كان والدي رحمه الله يترجم لوالدتي العجوز ماذا يقول الناطق العسكري باسم الجيش العربي السوري ، وكانت تتهلل فرحاً لكل انتصار ، كنت أفرح معها ، بحجم الفرح الطفولي ، لكنني لم أكن أدرك أن حجم الفرح أكبر مما تتخيله طفولتي .
لقد أحدثت حرب تشرين التحريرية آثاراً ونتائج كبيرة للغاية هزت العالم أجمع، من مغربه إلى مشرقه. وأصبحت نظرة المجتمع الدولي إلى العرب بعد حرب تشرين الأول 1973، تختلف عن نظرته السابقة إليهم، لاسيما تلك التي خلفتها حرب حزيران 1967. وقد عبر عن هذا الواقع الجديد ميشيل جوبير وزير الخارجية الفرنسية، بقوله: ” انتهى عصر ألف ليلة وليلة، وعلينا أن نتعامل مع العرب بعد اليوم على أساس جديد” .
ربما نكون في حرب تشرين التحريرية قد خسرنا أرضاً هنا، وربحنا أرضاً هناك، إنما، مهما تكن حصيلة هذه الحرب من حيث الربح والخسارة الجغرافيتين، فالقضية ليست كما تريد ” إسرائيل ” تصويرها للناس، في محاولة يائسة منها لطمس آثار حرب تشرين التحريرية ونتائجها الإيجابية بالنسبة للأمة العربية.
القضية الأساسية في حرب تشرين التحريرية هي أن زمام المبادرة قد انتزع من يد العدو الإسرائيلي ولأول مرة، في تاريخ العرب الحديث. فالقرار التاريخي الذي جسده القائد المؤسس حافظ الأسد مع جمهورية مصر العربية في يوم العاشر من رمضان يعتبر القرار الأكبر والأخطر شأناً لا في تاريخ العرب المعاصر فحسب وإنما في تاريخ العالم المعاصر أيضاً. فالأمة العربية التي مافتئت تتلقى الضربات منذ مطلع القرن العشرين، وعلى وجه التحديد منذ وعد بلفور 2 تشرين الثاني 1917، وحتى أوائل السبعينيات، تنهض اليوم على قدميها، قدم في مرتفعات الجولان وقدم في شبه جزيرة سيناء، لتوجه لأعدائها الصهاينة ضربتين متزامنتين، واحدة على الخد الأيمن والثانية على الخد الأيسر وتنبه الرأي العام العالمي إلى أن العرب هم أصحاب «البيت» الحقيقيون .
منذ ذلك الحين انكسرت هيبة ” إسرائيل ” وأعيدت للعرب كرامتهم ، وأصبحت لهم الكلمة المسموعة في المحافل الدولية .
اليوم.. بفارق عمري الممتد من ثلاث سنوات الى بوابة الخمسين أدركت لذة الانتصار ، ووعيت حجم البطولة لبواسل جيشنا العربي السوري الذي سطر ملحمة انتصار سورية على الإرهاب ، فالجندي العربي السوري الذي حقق الانتصار في تشرين هو ذاته الجندي العربي السوري الذي حقق الانتصار على الإرهاب اليوم ، الجندي المؤمن بقضيته، المتمرس في استخدام سلاحه والمتقن لعقيدته القتالية ، هذا الانتصار يشكل امتدادا لانتصارات تشرين ، بفارق الزمان والسيناريو ، هدف العدو واحد ، وأطماعه واحدة ، ونحن وعدنا صادق وعقيدتنا ثابتة ، مهما كان حجم الاستهداف أو شكله ولونه .
رقم العدد 15819