الجماهير / حميدي هلال
انتصف شهر الراتب ، و بعد ساعات عمل مضنية في الجريدة عدت الى البيت قبيل المغرب منهكاً ، فارغ الجيوب ، خائر القوى ، مقطع الاوصال وخاوي المعدة ..
تداركتني أم العيال ومدت سفرة النايلون المعتادة، ثلاثة أمتار بمترين، وفي منتصف الملعب وضعتْ صينية المجدرة ” المتفق عليها مسبقا وفق توجيهاتي “، ثم دعَمَتها بفحل بصل يشفي العليل .
الأولاد كعادتهم احتجوا على هذه الأكلة المقدرة ولم يتحلقوا كالعادة حول السفرة، ومنهم من كان يتجاوز خطوط التماس ليجلس فيها، لكثرة عددنا، أحد عشر كوكبا والحمد لله ، ما عدا الشمس والقمر ، فاكتفوا هذه المرة بلعب دور الجمهور المتفرج الذي يترقب ماذا سيفعل عمر السومة .
جلست أم العيال الى جانبي مثل حكم المباراة، تأملتُ بدوري صينية المجدرة الحزينة، وأطلقتُ تنهيدة حارة خرجت من بين أضلعي مصحوبة بخيط دخان كاد أن يخترق السقف ليمسك بتلابيب السماء ويهزها بعنف .
قلت لها وقد فعل البصل فعلته وأنزل دموعي فتوهم الجميع أنني أبكي: والله يا امرأة ما وجدتُ ألذ وأطيب وأشهى من أكلة المجدرة، فهي الوحيدة التي تملأ قلبي بندى الحب، وتقيم صلبي، وتشبعني الى حد العتبة.
أرعبتني بنظراتها الحادة ، فأردت أن أوجه لها ضربة استباقية و أصرف عني كيدها، وردة فعلها المرتقبة، وأمتص حنقها، بأن قلت لها وأنا أخط بالملعقة وسط المجدرة وأرسم دوائر وخطوط وأفتح ثغرات وأقيم دشماً : أبشري يا أم العيال ، لقد دخل الجيش الى أراضينا في الجزيرة ، وإن شاء الله قريباً ستضع الحكومة يدها على منابع البترول ، وتقلع المصافي و معامل التكرير ، ويكثر المازوت والغاز والبنزين ، فتكتفي البلاد ، والفائض نبيعه الى دول الجوار ، وتزداد خرجية الحكومة ، وبالتأكيد ستزداد خرجيتنا أيضاً ، وترتفع الرواتب أضعافا مضاعفة ، وبدوري سأزيد خرجية الأولاد ، ونوفي الكيل من الديون ، ونزداد حمل بعير، فأشتري لك بابوجاً أحمر ، وعباءة مطرزة ، وقلم كحل ، و شكالة شعر ، وسنغير وجه المخدة ، و” بطاطين ” المعونة ، ونُركّب ” مسكات ” للأبواب ، ونزيد بند المناسبات الاجتماعية و الضيافة ، ولك مني يومياً فاكهة مما تتخيرين ولحم طير مما تشتهين ، وندفن الفقر الى أبد الآبدين ، و لن أجعلك على شيء بعدها تتحسرين ..
فتبسمتْ ضاحكة من قولي بعدما صار حقها في ” عُبها ” فرفعتْ يديها الى السماء راضية مرضية و كأنها تقول ” رب أَوزعني أَن أَشكر نِعمتك التي أنعَمْتَ علَيَّ ” .
وصفق الأولاد فرحين بهذه البشارة، وأخذوا يتعانقون، وخروا لله ساجدين، وراحوا يتخيلون مائدة المسيح عليه السلام تنزل عليهم من السماء، و عنباً وقضباً، وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، واستطعت بذكائي الخاص، وحنكتي المعهودة، ان أغير قواعد الاشتباك، وأحول العلاقة بيني و بين ام العيال الى صفر مشاكل، فأخرجت نفسي من عنق الزجاجة، و قلبت الطاولة وكسبت الجولة، ثم توليت عنهم ، وأويت الى ركن مريح، فغرقت في نوم عميق.
رقم العدد 15833