عقود اذعان

 

الجماهير / بقلم : حميدي هلال

أول عقد إذعان وقعته في حياتي هو عقد الزواج من المحروسة أم العيال . بصمتُ بالعشرة على تصريح خطي عريض طويل مع شهود اثنين، بعدم الزواج من غيرها مستقبلا ..!! فسرها لي صديقي المحامي بعد أن صحوت من الضربة وانتهى شهر العسل فقال لي هذا التصريح ” يا الحبيب ” بمثابة خازوق ” مبشم ” يقيدك بعدم الزواج مستقبلا حتى لو توفت أم العيال او خلعتك !! ولا يمكن تعديل اي من بنوده او المفاوضة بشأنه…!! شعرت ساعتها بحرارة سيخ شاورما تنبعث من قحف رأسي، حاولت ان افسخ العقد، وأنكث العهد، وأخلف الوعد، لأذهب غيظ قلبي، وأشفي صدري، لكنني فضلت معيشة الاذعان على العزوبية مدى الحياة.!! فقبلت عن رضا وأنا صاغر ..

مجمل متاعنا في الحياة الدنيا نحصل عليه بإذعان ونحن صاغرون، غالبية العقود التي نوقعها مع الفريق الاول أشبه بعقد زواجي، خازوق ” مبشم ” لكن بدون حب ، بالإكراه ، ولا يمكن المناقشة فيها بدءً من شهادة الولادة وانتهاء بشهادة الوفاة مروراً بمكتب دفن الموتى ، وجميع الخدمات اليومية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات .. عقود العمل السنوية المؤقتة، وعقود التأمين الصحي بمختلف مسمياتها، ومعاشات الشيخوخة ..

حالات الاسعاف والعمليات الجراحية، أنت توقع للطبيب مذعناً بالتنازل عن حقك بالحياة ، لو زهقت روحك تحت مبضعه فلا مسؤولية قانونية عليه…!!.

وحتى في عالمنا الافتراضي يلاحقنا الاذعان، حساباتنا على البريد الالكتروني او الفيسبوك ، التويتر ، التلغرام والواتسأب ..مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام ، كل العقود معها عقود اذعان ، من فكر منكم أن يقرأ بنود الاتفاق على الفيسبوك .؟؟ نحن نوافق فوراً، فنضغط تلقائيا على زر ” أكيوبت ” علما أن فيه الكثير من البنود التي تخترق الخصوصية وتطلب الاذن بالوصول الى مكالماتك وصورك الشخصية السيلفية منها والسرية وما تحت الحمراء ..!!

بالمجمل عقود الإذعان يفرضها الفريق الأقوى ” الأشد بطشاً ” ، على الفريق الأضعف ، ويملي شروطه بدون اعتراض ، فالعوز والفاقة والحاجة الملحة تدفع الفريق الثاني للموافقة القسرية والإذعان .

أما ” الأشد تنكيلا ” ما تفعله المصارف والبنوك، أو أي جهة اقراضية أو تسليفية أخرى، تستغل المواطن أبشع استغلال، وتجيّر حاجته لمصلحتها، فتفرض عليه شروطا قاهرة، بدء ً من الكفلاء الى الفائدة المالية، ونسبة الاقساط الشهرية، مروراً بالرهان المقبوضة ” دارك، سيارتك، أرضك، خيلك، حميرك .. .” لضمان حقها، ولو استطاعت تلك الجهات أن توقع الفريق الثاني على اقتطاع أجزاء من جسده كأن تقتلع احدى عينيه أو ” تجدع ” أنفه، أو ” تصلم ” أذنه، و” تقضم ” شفتيه، أو ” تجتث” احدى كليتيه، أو تلقي ” الحجز الاحتياطي “على كل عضو يمتلك منه زوجين اثنين، لما قصرت في ذلك ..!!

ربما العقود الرضائية الوحيدة التي نمضي عليها في حياتنا هي تلك العقود العفوية التي تمر في تعاملاتنا اليومية وتأتي ضمن إطار التعاقد ولو كان شفهياً او ضمنياً، فنقوم بالكثير من الصفقات والتعاقدات بشكل لا شعوري. تمشي في الشارع، تشتري فنجانًا من القهوة، وتجلس في المقهى المطلة على الشارع، تراقب المارة، تتجول في الحديقة، تبتاع جريدتك وبعضاً من السجائر أو العلكة من بائع متجول.. ومن دون أن تلاحظ فها أنت التزمت بعقد شفهي مع كل من المقهى والبائع المتجول وغيرهم من الأشخاص الذين ستتعامل معهم طيلة يومك!

الحقيقة، فسحة الحياة، رحبة لغيرنا، ضيقة علينا، نعيش سنواتها وهناً على وهن، ونغادرها وأعيننا تفيض من الدمع، على أمل أن تكون الآخرة خير وأبقى.

رقم العدد 15840

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار