الجماهير / بيانكا ماضيّة
في هذا العصر الهمجي البائس تُكتب حياة كثيرين بالدم، حياة ليست كهذه الحياة، وبدم كان لا بد من أن يراق لتنال هذه الأرض الأبدية والخلود..
وحين يسألك إنسان بكثير من قلق وهو في أبعد نقطة من هذا العالم، يسألك عن سورية ومدنها، عن عذابها وخلاصها، تدرك أن هذه الخالدة المخلّدة هي عذاب وخلاص ذاك الإنسان البعيد..
أسماء وأسماء حفرها بأيديهم أولئك البؤساء على بوابات هذه المدن.. فمن ينسى وجوه الشهداء وهم يعبرون طرقات آلامهم في طريقهم إلى جلجلة الشهادة؟!.
أهي مصادفة أن يصلب على هذه الأرض أطفال وشبان ورجال ونتضرج نحن بالصراخ والبكاء؟! لا.. ليست مصادفة تلك.. إنهم – هؤلاء البؤساء المعتوهين- يرفعون مصلوبي الموت إلى قمة السماء بصرخة واحدة، وبطلقة واحدة يبعثونهم من الموت؛ ليسيروا بيننا وليرونا آثار الصلب على أرواحهم..
كم هم بؤساء إذ خالوا أنهم سيفنون ويكتبون الحياة، إنهم غير مدركين أنهم يحفرون أسماءنا على رقُم جديدة ليتلقفها أناس من أجيال أخرى في عصور أخرى، فيدركون أي ألم مرّ على أجسادنا وأي نصر كتبناه بدمائنا.. وهم أولئك الملتحون بالموت راحوا يلفون أجسادهم بأكفانهم السوداء ليزجّوا بأنفسهم إلى التهلكة، إلى الجحيم.. فلا أحد يتذكر اسماً لهم، ولا يذكر وجوههم الشيطانية؛ لأنها سوداء في عتمة. كم هم بؤساء إذ جعلوا الخلود لرسالتنا الإنسانية والموت العبثي لرايتهم المجنونة..
خالوا أنهم يقطفون منا فوران شبابنا وجمال أنوثتنا وزهوة طفولتنا، بؤساء هم إذ لا يدركون أنهم خلدوا ذاك الشباب إلى الأبد، ووشموا الجمال اللامتناهي، وجعلوا تلك الزهوة زهوراً تتفتح كل ربيع..
لو أن من ذهبوا لم تقطع رؤوسهم، ولم يجرِ دمهم نهراً، ولم يتدحرجوا كالحجارة في الأنهار، ولم تؤكل أكبادهم، ولم تخترق الرصاصات قلوبهم، لو أن ذلك لم يكن لما سُطّر خلودٌ لهم، ولربما كانوا سيطرقون بابه من طريق أخرى، لكن الخلود الذي فُتحت أبوابه لهم كان أكثر رفعة وعظمة، إذ كان موصوفاً بالشهادة، ويا له من خلود ذاك الذي يستريح فيه الشهداء!
كم هم مساكين حين خالوا أنهم يسلبون منا الحياة والحرية! كم هم مساكين إذ إنهم بجزّ رؤوسنا، وبإسالة دمائنا على هذه الأرض، قد نقشوا لنا الخلود بأيديهم وحفروا لهذه الأرض أبديتها!
هنا أطلق الإله صرخته وأرسلها يماماً لتتجلى سلاماً ورحمة..
رقم العدد 15856