(رحلة الشام 2701) ..فيلم إيراني بممثلين سوريين ولبنانيين وإيرانيين الفيلم الذي تناول وجود داعش في سورية وتبرير الوجود الإيراني فيها، وهو الفيلم الذي أبكى اللواء قاسم سليماني (رحمه الله) حين حضوره له.
الجماهير- بيانكا ماضيّة
تناولت السينما بشكل عام وخاصة في السنوات الأخيرة من الحرب على سورية وقائع هذه الحرب وتأثيرها على من كان يدافع عن الأرض السورية وعن الأماكن المقدسة فيها، وقد رأينا غير فيلم من الأفلام التي تطرّقت إلى وحشية التنظيم الإرهابي (داعش) الذي عاث في البلاد قتلاً وتخريباً، والدور المقاوم والمدافع لمن حاربوه (جيشاً وقواتٍ رديفة وشعباً) بكل ما أوتوا من حب للدفاع عن الوطن؛ لتخليصه من جرائم هذا التنظيم التكفيري التي جعلت الناس يعيشون واقعاً مأساوياً قاسياً يصعب على المرء تحمّل تبعاته على غير صعيد.
يبرز الفيلم الإيراني (بتوقيت دمشق) أو (رحلة الشام 2701) للمخرج الإيراني إبراهيم حاتمي كيا عن نصّ له أيضاً، واحداً من تلك الأفلام التي تناولت وحشيّة هذا التنظيم، والصراعات الداخلية فيما بين أفراده، إذ استطاع المخرج حاتمي كيا التغلغل إلى داخل التفكير الداعشي في صناعة حربه الإعلامية المُتقنة عبر إظهاره شريط الرعب الذي يبثه وينفذه التنظيم، وتلك الوحشية التي لا ترحم حتى النساء والأطفال تحت غطاء الدين. فضلاً عن طرحه العديد من القضايا التي سنتحدث عنها حين عرض قصة الفيلم.
كتب في بداية الفيلم: في كانون الثاني لعام 2011 دخلت سورية في أزمة كبيرة إثر الاضطرابات والخلافات الداخلية، وفي هذه الأثناء كان (أبو بكر البغدادي) زعيم جماعة داعش الإرهابية يحلم بتأسيس دولة خلافة على أراضي العراق والشام، كانت المدن تسقط الواحدة تلو الأخرى بيد هذا التنظيم أما التي تبدي صموداً فإنها تدخل في حصار ظالم لايعرف الرحمة. ثمة كارثة إنسانية كانت على وشك الوقوع ولا سبيل لتفاديها سوى عبر إيصال المؤونة والمساعدات عن طريق الجو وكان الطيارون الإيرانيون من السبّاقين لإنجاز هذه المهمة.
ويبدأ الفيلم بعملية إنزال لصناديق المؤن من الطائرة على أرض البلدتين اللتين شهدتا حصاراً عليهما من قبل داعش، وهما (كفريا والفوعة) صيف 2015، تسقط الصناديق من الطائرات ويصوب عليها الدواعش بنادقهم لعدم وصولها للمحاصرين من أطفال البلدتين ونسائها.
وتدور القصة حول الضابط الطيار الإيراني الشاب (علي رستمي)، وقد قام بدوره الممثل الإيراني باباك حميديان ليقدمه المخرج كشخصية بطوليّة تقع في دوامة الصراع بين الواجب والبقاء مع والده الطيّار (الحاج يونس) والذي قام بدوره الممثل الإيراني هادي حجازي فار، وبين الرغبة في العودة إلى الوطن بعد أن ترك زوجته في المشفى، وقد استطاع المخرج – من خلال رسائل الفيديو على الهاتف النقّال أو الآي باد، والتي كان يرسلها لزوجته الحامل وكذلك رسائل زوجته له وهي في المشفى، ورسائل والدة زوجته له التي تؤنبّه على عدم العودة إلى الوطن (إيران) بعد فقدان الطفل الأول جنيناً- إيصال فكرة هذا الصراع الذي يتمثل في جانب آخر في البقاء إلى جانب والده الطيار، المقاتل القديم الذي شارك في حروب مختلفة، والذي ينتظر الشهادة في ميدان القتال، ويظهر من خلال حواراته مع والده موضوع عدم اختياره خوض المعركة بنفسه، وعدم استساغته غياب والده في مهمات قتالية في كل من حربي العراق وإيران، وحرب البوسنة، ومن ثم حرب لبنان، بحكم الجغرافيا المحكوم عليها عدم الاستقرار بشكل دائم.
ساعتان تقريباً مدة الفيلم، وفيها تتطور الأحداث، وتبدأ منذ إقلاع طائرة النقل العسكرية السورية “إيليوشن” من تدمر تحت جنح الظلام، من مدرج الإقلاع بعد تنظيفه من شظايا مخلفات القذائف لتستطيع الطائرة الإقلاع متجهة نحو دمشق. يقودها الطياران الإيرانيان علي ووالده يونس اللذان تبرعا بقيادتها رغم المخاطر المحفوفة بهذه العملية، بعد أن تم قتل طيارها الذي كان يقودها من قبل، وبقيت ابنته هبة التي تدرس علم الآثار في تدمر، وعندما علم والدها بعدم قدرتها على المجيء إلى المطار ذهب هو إليها فأصيب بطلقة في صدره.
لم تكن الطائرة خالية ففيها جنود سوريون، وآخرون مدنيّون تم إنقاذهم من تدمر ليتم نقلهم إلى دمشق مع عدد من معتقلي تنظيم داعش الإرهابي، إضافة إلى وجود شهداء ومنهم كابتن الطائرة نفسها، وجرحى مصابين، وهبة ابنة الكابتن الشهيد، في محاولة لإتمام العملية وإنزال الطائرة في مكان آمن قبل بلوغ أعضاء التنظيم مكان وجود الطائرة. وهنا يظهر البعد الإنساني في هذه العملية التي يقوم بها الطيّاران، والبعد الوطني الذي يحاكي واقع الحرب في سورية، إذ يقتضي الواجب بذل النفس دفاعاً عن الأرض والحق والإنسان.
بعد دقائق من الترقب سبقت إقلاع الطائرة والمواجهة التي حصلت على الأرض بين عناصر من الجيش السوري بقيادة الضابط “أبو بلال” والذي قام بدوره الممثل اللبناني القدير بيير داغر، يشعر المتابع أن هناك حدثاً ما سيكون على متن هذه الطائرة، ولكن مع من؟! وكيف؟! إلا أن هجوماً مباغتاً يكون من
قبل انتحاريين من داعش يتقدمون باتجاه الطائرة من آخر المدرج، الأمر الذي يجعل من الضابط (أبو بلال) يفجّر نفسه بهم بسيارته العسكرية، فتتمكن الطائرة في هذه اللحظة من الإقلاع..هنا يسمع صوت الكابتن المساعد من قمرة القيادة، وفي مشهد مؤثر، يقول: (أعزائي المسافرين، نحمد الله أنه نجانا من شر البلية، وأبشّركم إن شاء الله أننا سنهبط في مطار دمشق بعد 50 دقيقة، أعلم أن جميعنا مفجوعون بفقدان أحبائنا، ارفعوا أيديكم بالدعاء للمدافعين عن تراب الوطن. كلنا شهدنا على بطولة أبو بلال الذي ضحى بروحه ودمه لنعيش نحن، هنيئاً لأبو بلال وأنصاره، الذين قاتلوا وقاوموا بشجاعة، وسورية فيها الكثير من هؤلاء الأبطال، ادعوا للجرحى بالشفاء، والرحمة والخلود للشهداء).
ولم تنته المخاطر بعد، ففي هذه الأثناء تتقدم إحدى نساء داعش المتخفيات بين الأهالي المدنيين، من الاقتراب من أحد الأسرى الدواعش وهو زوجها (الشيخ ممدوح سعدية)، بخديعة كشف وجهه للملأ والإعلان عن أن المصائب كلها من تحت رأسه، وفي ظل الفوضى التي تحصل من جراء رمي الأهالي على الإرهابيين الأسرى الأحذية، ترمي لابنها الداعشي المأسور سكيناً يقطع من خلاله القيد الذي ربطت به يداه، فيأخذ بندقية أحد الجنود بعد أن يقتله بالسكين. وهنا ينقلب المشهد وتكون السيطرة للدواعش (المتعددي الجنسيات) على الطائرة، فيستشهد الكثير (ضباطاً ومدنيين) وتتصاعد الأحداث حتى تدخل في مرحلة التفاوض بين الطيار الحاج يونس وبين الشيخ ممدوح سعدية إذ يتم إخلاء سبيل الجميع مع توابيت الشهداء حيث حطت الطائرة في مقابل أن يعود بهم الطيار علي إلى تدمر.
نقاط كثيرة تحسب لهذا الفيلم في أن مخرجه استطاع تقديم رؤيته لفكر الجماعات المسلّحة، فهي منقسمة فيما بينها، عقائديّاً، ومزاجيّاً، وقد اغتنى الفيلم بتعدد المشاهد التي تتضمّن صراعات هؤلاء الجماعات حول تحديد الأهداف، وصراعاتهم في الأسلوب وفي التعامل مع الضحايا والأسرى، فهناك الإعلامي التكفيريّ الأوروبي المهووس بالموسيقا والاستعراض المبالَغ فيه، وكذلك الانتحارية الأميركية المنقّبة (أم سلمى) التي استطاعت الوصول إلى قمرة القيادة إلى جانب الطيار علي، وهي المهووسة بالقتل الانتحاري وإرسال الرسائل التشاؤميّة عن الحقد والكراهية حدّ القتل.
ونطلع في هذا الفيلم أيضاً على الحضور الروسي العسكري من خلال طائرتين حربيتين روسيتين تتعقبان الطائرة لمعرفة ما يجري على متنها دون الخوض في احتمال تدخلهما المباشر، أما المشهد الأقسى فيكون لحظة هبوط الطائرة في تدمر، حيث تنتظرها فرقة من داعش. وهنا يظهر بطش ووحشية المجموعات الإرهابية، فالشيشاني المسيطر على الأرض يقطع رأس الشيخ ممدوح لتعامله وتفاوضه مع (الأعداء) حسب وجهة نظره، كما يأسر الطيارين والجنود السوريين والمواطنين جميعهم ويلبسهم اللباس البرتقالي، ولا يغفل الفيلم دور الإعلام الذي كان متلازماً مع القتال الميداني، إذ يقوم “أبو طلحة البلجيكي” بتصوير الأفلام بأسلوب هوليوودي متقن، ويتم وضع الأسرى في الأقفاص ما عدا الطيار علي الذي يُطلب منه الإقلاع بالطائرة نحو دمشق ترافقه “أم سلمى” التي تتحكّم بزر التفجير للسترة الناسفة التي ألبسوه إياها… هنا يدرك الطيار علي أن الهدف عملية انتحارية على غرار 11 أيلول فيستعيد السيطرة على زمام الأمور في النهاية محرراً الأسرى بالمظلات لتنزل الأقفاص بأمان على أرض دمشق إلى أن يقوم بتفجير الطائرة في الجو منعاً لبلوغها الهدف الذي رسمه لها الإرهابيون.
ويطل المشهد الأخير على ضجيج الأطفال في باحات المدارس، وعلى حقول القمح المحيطة بطفل منطلق على دراجته فرحاً مسروراً، وهو الطفل الذي ظهر في بداية الفيلم حين خروج الأهالي من (كفريا والفوعة) ملوّحاً للطائرة، في إشارة إلى أن هؤلاء الأبطال قدموا حياتهم فدى للأرض وللإنسان وللأطفال الذين يستحقون العيش بسلام وأمان.
يذكر أن الفيلم من تمثيل (بيير داغر وندى أبو فرحات وخالد السيد وسينتيا كرم ورامي عطالله وكارمن بصيبص وجوزيف سلامة) من لبنان. ومن سورية (ليث المفتي وعلي سكر) ومن إيران (هادي حجازي فر، وبابك حميديان) وقد تنوعت اللغة فيه مابين الفارسية والعربية والإنكليزية، وقد طرح بجرأة قضية داعش، بتقنيات سينمائية عالية، اشتهرت بها السينما الإيرانية، فضلاً عن المؤثرات الصوتية والسينوغرافيا.
وفي مقال كتبه د. نبيه علي أحمد في مجلة (بقية الله) إثر عرض الفيلم في طهران قال: “وخير شاهدٍ على نجاح الفيلم، تصريح الجنرال قاسم سليماني بأنّ الفيلم أبكاه، ودموع وزير الخارجيّة الإيرانيّ التي رأيناها خلال عرض الفيلم، الذي بدأ بمشهدٍ مؤثّر، حين رمت الطائرات المساعدات وشاهدنا ملامح وجوه الأطفال والنساء خصوصاً، يملؤها الرعب والخوف والبؤس وحالات الجوع، فيما يلتقطون المساعدات كآخر رمق للحياة، يركض الصغار لالتقاط ما يجدون، تُفاجئهم القذائف لتلمع عيونهم بالخوف من تبدّد الأمل الأخير”.
بدأ تصوير الفيلم، مع استثمار “منظمة أوج للفنون والإعلام” وهي مؤسسة مقرها طهران وتنتج أعمالاً ثورية في الفن والسينما، في موقع أحد المطارات العسكرية في طهران. ثم في العديد من المواقع، بما في ذلك “مدينة الدفاع المقدس” السينمائية بطهران، وقاعدة شيراز الجوية وأصفهان وقرى شهريار المحيطة، كما صوّر في تدمر ودمشق، وانتهی التصوير عام 2017، وتم عرضه في العام الماضي 2019 في إيران ولبنان، وسيعرض في كل من العراق وسورية.
ويذكر أن الفيلم رشح لثماني جوائز (عنقاء بلورية) في مهرجان الفجر السينمائي الدولي من ضمنها جائزة أفضل أفلام وأفضل مظاهر بصرية وأفضل إخراج وفاز منها بثلاثة جوائز لأفضل إخراج لإبراهيم حاتمي كيا وكذلك جائزة أفضل تركيب للأصوات لعلي رضا علويان وأفضل موسيقى لكارن همايون فر.
نهايةً.. قُدِّم فيلم (رحلة الشام 2701) إلى قافلة الشهداء الذين قدموا رؤوسهم من أجل الإنسانية بدءاً من نبي الله يحيى والإمام الحسين وانتهاء بشهداء عصرنا ممن تضرجوا بدمائهم في أرض الشام.
رقم العدد ١٥٩١٤