بيانكا ماضيّة
سرى الخبرُ كالنارِ في الهشيمِ في المدينة، وقد صدّقه أغلبُ الناس؛ لأن بعضَهم رؤوا بأمِّ أعينِهم أولئك الذين كانوا يرسمون الأحداث!.
يقول الخبر: إن اثني عشر رجلاً، من أعمارٍ مختلفةٍ، ومن ذوي لهجاتٍ متعددةٍ يظهرون فجأةً في المدينة، كلُّ واحدٍ منهم على حدة، وبين فتراتٍ غيرِ متباعدة، يتحدثون مع الناسِ في الشوارع، يشاركون في الاحتفالاتِ، يقفون في الطوابيرِ، يتجوّلون في الأسواقِ، ثم فجأة يختفون!.
ذاتَ صباحٍ وفيما كان “أبو أحمد” بائعُ الأقمشةِ يرتشف من فنجان قهوته أمام دكانه الذي أعاد ترميمَه في سوقِ المدينة القديمة، وفيما كانت الشمس قد بدأت ترسل أشعتها كأنها تحتفل مع أبي أحمد بهذا اليوم البهيج، إذ عادت للسوق روحُه، كما يَرى، ظهر أمامه فجأة شابٌ في الثلاثين من عمره. ألقى عليه التحيةَ وسأله عن حالِ البيع والشراء، والمحالِ التجارية الأخرى التي افتُتحت في السوق. ورغم أن ظهورَ الشاب الفُجائي أربك أبا أحمد، إلا أن هذا الأخيرَ ارتاح لمظهرِ الشاب وسُرّ للهجة الساحليّة التي كان يلفظ بها الكلماتِ وكأنها فراشاتٌ تطير في المكان، فدعاه لشربِ القهوة معه، وبدأ يقصُّ عليه حكاياتِ السوق القديمة.
وما إن انتهى أبو أحمد من السردِ حتى قال له الشاب بنبرة العارف: هناك حكاياتٌ عن هذه السوق لايعرفها حتى أصحابُها! واختفى فجأةً من أمامه.
في المساء عاد أبو أحمد إلى منزله وسَرد لزوجته قصّةَ رؤيته الشابَ واختفائه فجأة.وخلالَ أسبوعٍ لم يبق أحدٌ من معارفِ أبي أحمد وأصدقائه، إلا وقصّ عليه قصّةَ الظهورِ والاختفاء، حتى أنه في كل مرة يحكي تفاصيل القصة كان يضيف جملاً أخرى تتحدث عن شعوره تجاه ذاك الشاب.
تناقل الناسُ الخبرَ في المدينة، حتى أن بعضَهم تمنى لو أن هذا الشابَ يظهر له؛ ليعرفَ قصّتَه، وليرى ملامحَه، وليمعن النظر في آلية اختفائه.
بعد أيامٍ قليلة، وفيما كانت المدينةُ تستعد للاحتفالِ بعيد الموسيقا، وفيما كان ثلةٌ من الشبابِ يجهزون المنصّةَ في ساحةِ سعد الله الجابري، ويرتّبون الكراسي حولها، ويسوّرونها بحبلٍ كيلا يمرَّ بها أحد، رؤوا فجأة شاباً في العشرين من عمره يساعدهم في الترتيب بكلِّ نشاطٍ وهمّة. ولأن مجموعةَ الشباب التابعين لإحدى المنظمات يعرفون بعضَهم جيداً، فقد تساءلوا فيما بينهم عمن يكون هذا الشاب، وبما أنهم لم يجدوا جواباً، فقد توجّه إليه قائدُهم ليسألَه. حيّاه بداية وشكره على المساعدة، ثم سأله من يكون، فأجابه الشاب: رأيتكم تجهّزون الساحةَ للاحتفالِ بعيدِ الموسيقا، وأنا أحبُّ الموسيقا لأني كنت أعزفُ في الماضي على آلةِ الناي. واغرورقت عينا الشاب بالدموع! كانت اللهجة التي يتحدث بها الشاب لهجة شاميّة، كانت مفرداتُه كصوتِ نايٍ حقيقي، فلم يجد قائدُ المجموعة بدّاً إلا التربيتَ على كتفِ الشاب وشكرَه على مساعدتِهم، ودعوتَه له للمتابعةِ في الترتيب. وما إن انتهى الشبابُ من تجهيزِ الساحة حتى اختفى الشابُ من بينهم.
في مساء اليوم التالي شوهدت سيارةٌ مسرعةٌ عند مديرية الماليّة تصدم امرأةً كانت تجتاز الشارعَ، ثم تلوذُ بالفرار. طارت المرأةُ في الهواء وسقطت على الأرض دون حَراك. حينها شوهد رجلٌ في الخمسين من عمره، يخطف المرأةَ بسرعةِ البرق، ويوقفُ سيارةَ أجرةٍ؛ لينقلَها إلى المشفى.
في المشفى الجامعي بقي الرجل ملازماً للمرأة، ينفذ تعليماتِ الطبيبِ في شراء الأدوية وماتتطلبه حالتُها من أكياسِ دمٍ وغيرها. كانت المرأةُ في حالة غيبوبة، غيرَ واعيةٍ لما يجري حولها، ولم يجد الرجلُ إلا البقاءَ معها حتى يأتي أحدُ أقاربها.. بعد دقائق شوهد زوجُ المرأةِ وهو يدخل الغرفة التي كانت فيها زوجته تستلقي على سرير يجاورها مرضى آخرين، وما إن شاهده الرجل الخمسيني حتى اختفى على الفور.
ضجّت الغرفة باختفاء الرجلِ بهذا الشكل الفجائي، إذ كان جالساً على الكرسي بقرب المرأة بكامل هيئته البشرية. بدا أنه غريبٌ عن المدينة، يلبس رداء طويلاً كأنه يعود إلى آلاف السنين، بينما كانت عيناه تتفحصان الغرفة بكل دقة. وحين اختفى برّر أحد الحاضرين الذين عرفوا أن هذا الرجل لايمت للمرأة بصلة، أنه قد يكون ولياً من الأولياء الصالحين، إذ رآه يتمتمُ بكلماتٍ غيرِ مسموعةٍ حيناً، ويدعو لها بالشفاء حيناً أخر!
في مكانٍ آخرٍ من اليومِ نفسه، وفي الساعةِ نفسِها، وعندَ أحد الحواجزِ الموجودةِ على حدود المدينة، كان هناك ثلاثةُ عساكرَ، يتفقدون مابدواخلِ السيارات التي تمر من أمام الحاجز، حدث وأن أحد هؤلاء العساكر، واسمُه عادل، عادت له نوبةُ الصداعِ النصفيِّ الشديد، وزاد في الألم الذي بدأ يشعر به تعرضُ عينيه لأضواءِ السياراتِ التي يراقبون سيرَها وتوقفَها. بدأ الألمُ ينبض بقوةٍ في جبينه، ثم امتد إلى أحد جوانبِ الرأس، ضغط بيدِه على صدغيه، وبدأ يشعرُ بالغثيان. وبعد أن أرخى يدَه التي كان يضعها على جبينه مغطياً عينيه بأصابعه تأثراً بالألم، لم يجد أمامه إلا شابٌاً في العشرين من عمره لم يكن عسكرياً من العساكر، ولا صديقاً من الأصدقاء، فوجئ بظهوره، وبما أن الألمَ استحوذ عليه كله، لم يستطع أن يسأله عمن يكون، ولكن الشابَ العشريني وبلهجة سويدائيّة، كأنها بلسمٌ لمس رأسَ العسكري، طلب منه أن يدخل إلى المحرس ليقومَ هو بدورِ الحراسة ومراقبةِ السياراتِ بدلاً عنه.
لاحت شاحنةٌ كبيرةٌ آتيةٌ من خارج المدينة، وما إن اقتربت من الشاب العشريني حتى طالب سائقَها بالتوقف، اقترب منه وسأله عما تحتويه الشاحنة، ولما بدا على ملامحِ السائق نوعٌ من الارتباك، ما كان من الشاب إلا أن لقّمَ البندقيةَ التي أخذها من العسكري عادل، وأمره بصوتٍ عالٍ بالترجل فوراً، وحين سمع العسكريان الآخران اللذان على الطرفِ الآخرِ من الطريقِ صوتَ الشابِ وصوتَ التلقيم، حتى لقما هما الآخران بندقيتيهما وأمرا السائقَ برفع يديه إلى الأعلى، واقتربا من الشاب ظناً منهما أنه رفيقُهما، ولكنهما فوجئا به، ولم يعرفا من أين أتى، وماذا حلّ برفيقهما عادل. اقترب أحد العسكريين من الشاب قائلا له بنبرة خشنة:
-من أنت؟! وأين عادل؟! فأجابه الشاب: أنا قريبُ عادل، وعادل موجود في المحرس إذ عاد له ألم الشقيقة! لم يكن هناك وقتٌ للتفكير بعادل أو بقريبه الذي حلّ مكانه، ففي هذه اللحظات كان وجهُ السائق قد اصفرّ، وبدت عليه ملامحُ الخوف، وأبدى حركةً كأنه كان يبتغي الهروبَ من خلالها، فما كان من أحد العسكريين إلا أن وجّه بندقيتَه باتجاهِ رأسه، قائلاً له: أيُّ حركةٍ منك ستجعل الرصاصة تخترقُ رأسك!.
بدأ العسكري الجديد، عفواً، الشاب العشريني، بتفتيش الشاحنة بكلّ دقة، وما إن قلب المقعدَ الذي يجلس عليه السائق حتى رأى مجموعةَ أسلحة. حينها طلب الشاب من العسكريين أن ينفذا ماهو مطلوب منهما في حالة كهذه. بعد دقائق وصلت سيارةُ الشرطة، وما إن رآها الشاب العشريني قد توقفت في المكان وبدأ عناصر الشرطة بالترجّل منها، حتى اختفى من أمام الجميع بلمحة البرق.
بعد أن انتهى موضوعُ تسليم السائقِ والشاحنة ِكان حديثُ العساكر عن ظهورِ الشاب العشريني وقيامِه بالحراسة واكتشافِه الأسلحةَ في الشاحنة، ومن ثم اختفائه!.
بدا الأمر غامضاً في المدينة إذ من أين يأتي هؤلاء الرجال، وكيف يختفون؟! من هم؟! وأين كانوا، وماهي قصّتُهم؟!
على سريرٍ في غرفةٍ في أحد المنازل، وبعد أيامٍ من قصة الشاب الذي وقف حارساً بدل أحد العساكر، وفي ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، وفيما أهلُ البيت نيامٌ كلهم، كان هناك شابٌ أصيب في ميدان الحرب، الإصابةُ جعلت قدميه مشلولتين، وكان بحالة يأسٍ وإحباطٍ سيطرت عليه في الفترة الأخيرة. فجأة رأى بقربه رجلاً لايعرفه، لكن جرحاً كان يبدو واضحاً على رقبة الرجل، جرحُه يمتد على كامل رقبته، أمسك الرجلُ بيد الشاب المصاب، وسأله: كيف أصبت في الحرب؟!
بدأ الشاب يقصّ على الرجل تفاصيلَ ذاك الاقتحامِ الذي خرج منه مصاباً، وأكثر ماتوقّف عند سرده هو تفاصيلُ الألم الذي شعر به حين اخترقت عمودَه الفقري رصاصةٌ من رصاصاتِ تلك الجماعات التكفيرية التي هاجمت البلاد..
حينها ضغط الرجلُ على يد الشاب، فسرتْ في جسدِ الأخير راحةٌ وسكينةٌ لم يشعر بهما مذ أن أصيب، ثم راح الرجلُ ينظر في عيني الشاب ويقول: إن حدّثتُك عن تفاصيلِ ذاك الألمِ الذي شعرتُ به حين سقوط طائرتي في المكانِ نفسه الذي كنت أطلق عليه الصواريخَ حيث تجمّع قادةٌ من الفصائلِ التكفيرية، وبعد أن أمسك بي أولئك المجانين، وأصبح رأسي بين أيديهم… وهنا توقف الرجل قليلاً ليبلع ريقه، وتابع قائلاً: إن حدثتك عن تفاصيل ذاك الألم الذي شعرت به حين بدأت سكينهم التي وضعوها على رقبتي تجزّ طبقة اللحم ثم العظم، وخروج الروح من داخلي، لن تكفيني أيامٌ لروايتها أو صفحات لكتابتها.
نطق الطيار بهذه الجُمل واختفى كأنه لم يكن قبل ثوانٍ جالساً قربَ العسكري المصاب.
لم تكن تفاصيلُ ظهورِ الرجال واختفائهم قد حصلت في مدينةِ حلب وحسب، إذ قيل إن رجالاً آخرين كانوا يظهرون ويختفون في المدن السورية كلها، يتحدثون مع الناسِ في الشوارع، يشاركون في الاحتفالاتِ، يقفون في الطوابيرِ، يتجوّلون في الأسواقِ، ثم فجأة يختفون.
وسرت الأخبارُ كالنارِ في الهشيمِ في المدن كلها، وقد صدّقها الناس كلهم؛ لأن أغلبَهم رؤوا بأمِّ أعينِهم أولئك الذين كانوا يرسمون الأحداث!.
رقم العدد 15927