حلب … عودة الغائب

الجماهير – انطوان بصمه جي

مهما قيل عن إنجازات ميدان السياسة في التاريخ فإنه لا شيء يرقى إلى مستوى الإنجاز العسكري والحربي الذي تحقق في عاصمة الشمال ، فرحة كبيرة يعيشها الحلبيون للمرة الثانية ، الأولى كانت في نهاية عام 2016 بعد تحرير الأحياء الشرقية منها أما الفرحة الثانية ارتسمت بعد تحرير مدينة حلب بالكامل ، كم طالت الأيام التي انتظروها واستعدوا لها أهالي حلب لاستقبال هذا اليوم “التاريخي” ، فسرعان ما نزل الجميع إلى الشوارع ، لترى الناس مشاركين سيراً على الأقدام أو بسياراتهم وشارات النصر ترتسم على أصابع يد الكبار ترافقها ضحكات عميقة تزين وجوه الأطفال ملتفحين بعلمهم الوطني.
وبما أن لكل حلم حقيقة جلية ، فإن قيمة الفرح توازي فرحة الانتصار ، ولا شيء يوازي نكهة النصر الآتي من بين طواحين الحرب في الشمال ، فلهذه الحرب الظالمة ذكريات أصابت وعلّمت في قلوب كل بيت حلبي من أيام الحصار عند سماع انقطاع الشريان الرئوي الوحيد طريق خناصر – في ذلك الوقت – والتراكض للبحث عن القوت اليومي بدايةً إلى عمليات جر مياه الشرب وتحضير خبز التنور على الصاج بالإضافة إلى المهمة الأخطر تأمين المستلزمات تحت وابلٍ من الصواريخ وقذائف الحقد التي قد تكون بانتظارك واحتمال كبير أن لا تعود لمنزلك وتغادر إلى الأبد ، لكن تبقى صورتك معروضة في كنف الجدار الرئيسي لمنزلك.
هل أحصى أحدكم كم من ذكريات سيئة حزينة تبقى في الذاكرة لا ينساها الحلبيون في فترة الحصار فأولها كان (معبر الموت) الذي فصل أحياء حلب الشرقية عن الغربية قصص الظلم والمآسي التي رافقت البشر فمن عمليات قنص وقتل إلى إذلال في سبيل الحصول على لقمة العيش زمن الحرب، في ذلك المعبر الكائن في بستان القصر أحداث مؤلمة، فالجميع مرغم بالاتجاه إلى الشارع الضيق حيث هناك باعة كثر من أبناء القرى والأحياء الشعبية يأتون ومعهم خضارهم بغرض بيعها وفي معظم الأحيان تكاد لا تستطيع الوصول إليهم من شدة الازدحام وما إن تسمع صوت طلقة القناص الموجهة للمعبر.. ففي هذه اللحظة ترى الناس يتراكضون بالاتجاهات كافة لتبقى الخضراوات وحدها فقط تفترش الطرقات ، ويكاد يُجمع أغلب أهالي العاصمة الاقتصادية على كمية الذكريات المؤلمة أشخاص مفقودين ، أطفال مشردين ، معامل مسروقة ، مصابو حرب ، بسمة لشهيد حي يتكئ على عكازه ، أشلاء وشهداء ، أملُ أمٍ في انتظار عودة ابنها المخطوف ، لكن تبقى الحقيقة الشاهدة إلى يومنا الدمار في أغلب شوارعها “العتيقة”.
لا أعرف عدد الذكريات الأليمة المتراكمة في مخيلتي ، لكن قصة حقيقية تدور في مخيلتي نهاية كل يوم ، سبع سنوات خطفت الكثير من الوجوه المبتسمة كانوا بيننا ، سأروي لكم إحدى القصص المفجعة التي حدثت معي ، روبيرت (اسم حقيقي) ذهب من بيته ولاتزال أسرته تنتظر عودته بفارغ الصبر مصحوباً بالأمل والرجاء برؤية وجهه المغيب قسراً وظلماً ، ابنه أصبح في الصف الثاني الابتدائي بدأ يخط بقلمه موضوعاً أدبياً يتحدث فيه عن والده (المفقود) ، يستصعب عليّ إجابته عن سؤاله اليومي ، أين أبي ؟؟ اتلعثم ، أقف أمامه صامتاً لا أعرف ماذا أقول له ، فمن المعروف أن الحياة لم تتوقف يوماً ، أسرد له قصة النبي أيوب ليميزه الله بصبره على البلاء والمصاعب.
ففي الحرب يسأل الناس سؤالاً مشروعاً عن نهاية الحرب وصيرورتها وإصرارهم على معرفة نهاية الحكاية ومعرفة مآل مفقوديهم ، وبالفعل بدأت النهاية تكتب منذ هذه اللحظة بهمة المحاربين ، وربما تكون القصص المؤلمة غيض من فيض تشاركنا يومنا في المقابل تظهر لنا حقيقة جلية هي أن التاريخ يصنعه الملوك المحاربون ولولاهم لكان التاريخ أشبه بقصص نتلوها على مسامع الأطفال نهاية كل يوم.
رقم العدد ١٥٩٥٤

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار