الجماهير – بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
ما من شكٍّ أن الحضارة هي سمة تاريخ أمتنا المجيد غير أن واقعنا الحاضر قد ابتعد كل البعد عن تلك السمة وعن ذلك المجد، وأصبحنا نُشاهد ما يخالف ذلك التاريخ وما يجعلنا نذوب أسفاً على ذلك الماضي المجيد؛ وما ذلك إلا لابتعاد الجيل الجديد عن تلك الأصالة وعن ذلك المجد؛ والسير وراء تلك التيارات الغربية التي تعمل على هدم المجتمع وطمس الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة فيه؛ واستبدالها بمظاهر الانحراف والترهّل الاجتماعي.
ذلك أن لكل أمة مقداراً من القوة بحجم ما تمتلك من رصيد من الشباب، فإن سطع نجم شبابها وحملوا لواء السابقين كانت من الأمم المتقدمة، وإن خبتْ جذوتهم وتنكروا لأصولهم تحوّلت تلك الأمة إلى أمةٍ هرمةٍ تقوم على التقليد الأعمى لذلك الغزو الفكري القادم من مؤامرات الغرب.
يقول المتنبي:
ذلَّ مَن يغبطُ الذليلَ بعيشٍ
ربَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِمامُ
مَن يهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه
ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
لقد غدى عنصر الشباب في أمتنا يسير في مسارب الوهن حيث ـ ولغايةٍ ليست بالنبيلة ـ غُرس في أفكار الشباب أنهم غير مسؤولين عن تقدم مجتمعهم بل وأنهم غير مسؤولين عن تقدم أُسرهم أيضاً؛ بمزاعم عدّة كالادعاء أن سن المراهقة لا يمكن توجيهه أو الاستفادة منه؛ وادعاء الحرية الشخصية في التصرفات اللامسؤولة التي يمارسها بعض الشباب.
وجوهر الحل لهذه المشكلة هو الحذر من قِبل الآباء وتصحيح بوصلة الأبناء عبر تنبيههم ليتجنّبوا تلك الأفكار المُدمّرة لمجتمعنا، إنّهُ التربية السليمة المُنطلقة من أخلاقنا ومبادئنا وتراثنا الذي هو في حقيقته مقاومٌ لتلك التيارات الغربية الضالة.
لقد غدت وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها وعلى ما بها من فائدة وسيلة فتاكة لهجمات الغزو الفكري من خلال ما تروّج له من سموم، والسبب الرئيس وراء تلك الهجمات الشرسة واستهدافها للمراهقين هو أن العقل في هذه الفترة يتأثر بأي شيء فإذا رأى شيء أحبه ومن ثم اقتنع به ودافع عنه، وبقناعته ودفاعه يكون قد هدم جميع وسائل الدفاع ضد ذلك الغزو الفكري الذي هو أبشع وسائل السيطرة على العقول وأخبثها، فهو يبني ما أراد من جسور العار، ويستهدف قلاع الأصالة بمعاوله الهدامة.
إن الغزو الفكري قد يُصادرُ حرّية التعبير ويفرض حَظرَ التجوال ويُلجمُ الأفواه الناطقة بالحق، قد يجتثُ الحاضرَ من ماضيه ويُغرِقُ الواقعَ في ضبابٍ من الوهمِ ويجعلُ المستقبل غامضاً؛ لأنه يسلُكُ سبيلَ الإقناعِ ويستخدمُ المُغالطات الكُبرى ليَبني عليها في عقولِ الناس نظرياتِ الوهنِ والعجزِ، إنَّهُ يُضعفُ من الأعماق.
يبدأ الغزو الفكري بالتفشّي بجسم الأمة المستهدفة شيئاً فشيئاً دون الشعور بذلك، فيبدأ بتحقيق مبتغاه وأهدافه، ويقع الأشخاص ـ لا سيما فئة الشباب ـ ضحية ذلك الغزو وينقادون له ولأفكاره لتحقيق أهدافه المنشودة وبذلك تصبح الأمة مسيطر عليها فكرياً.
إننا في عصرٍ أحوج ما نحتاج فيه إلى تلك الصحوة الحضارية والفكرية التي تردّ هجمات الغُزاة وتستأصل شأفةً المحتلّين، نحن بحاجةٍ لتواجد الشباب الواعي في مجتمعاتنا في جميع مفاصل الحياة لنعود للنهوض نحو تلك الحضارة المنشودة التي عاشها الأجداد.
رقم العدد ١٦١٦٩