بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
في أوقات الشدة والبلاء تظهر الأخلاق الفاضلة كالبدر في ظلمات الليل الدامسة، ويبرز أصحاب الذوق الرفيع كمرجعٍ للناس ومصدر للسلوك الصالح.
وفي أدب التعامل مع الآخر نستمع إلى عباراةٍ كثيرة حول الذوق العام، ذلك المعنى الذي يختصر الأخلاق الراقية في التعامل والسبل السامية في التصرفات، إنّه الملكة الرائعة التي تجعل صاحبها يُراعي مشاعر الآخرين، وتقلبات أحوالهم، إنّه فن العلاقة مع الآخر.
والذوق ليس حكراً على دين أو مذهب، بل هو معنى إنساني رفيع يشترك به كل من يحمل في صدره الخير.
ولكنني في هذه العجالة لا بد أن أذكر تجليات الذوق العام في ديننا الحنيف من خلال نصوص واضحة ترسم لنا منهجاً راقياً من ذلك:
الدعوة إلى الذوق في السير والتحكم بالصوت أثناء الكلام، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْـجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63]. وقال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 18، 19].
ومن ذلك الذوق في الشارع فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِيَّاكُمْ وَالْـجُلُوسَ في الطرقات”. فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ، نتحدَّث فيها. فقال: “إِذْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْـمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ”. قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: “غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْـمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْـمُنْكَرِ) رواه البخاري.
ومن ذلك الذوق الرفيع في عدم ازعاج الآخرين حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْـحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]. ونزلت هذه الآيات في أناسٍ من الأعراب، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء، وأنهم أجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قَدِموا وافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه في بيته، فلم يصبروا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، (أي: اخرج إلينا)، فذمَّهم الله بعدم العقل، حيث لم يعقلوا الأدب مع الرسول واحترامه. ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل بين الرجُلين إلا بإذنهما كما روى الترمذي، وما ذلك إلى دلالةً على ذوق المجالس، وغير ذلك كثير مما يحتاجه الإنسان في حياته الواقعية كنهج راقي في التعامل مع الآخرين.
إن من مؤشرات السعادة للإنسان أن يكون ذو ذوق سليم، فهو بذلك يعرف كيف يستمتعُ بالحياة، ويعرف كيف يحترمُ شعورَ الآخرين ويُدخل السرور عليهم.
إن الذوق السليم في الإنسان يرفعه إلى حد أن يتخير الكلمة اللطيفة، والتصرف الملائم الذي يمنع الإحراج، ويدخل السرور على الآخرين.
إن رُقِيَّ الذوق أكثر أثراً في سعادة الفرد من رقي العقل؛ إن الذوق إذا ارتقى ترفّع المرء عن الأعمال الخسيسة، والأقوال النابية، والأفعال السخيفة.
وختاماً أقول لقد كانت أخلاق التجار وذوقهم الرفيع في عصور مضت سبباً في انتشار الإسلام في اقاصي اندونيسيا، وعندما انخفض منسوب الذوق لدى التجار في عصرنا ساد الغلاء واستشرى البلاء.
فما أحوجنا لذلك الذوق منهجاً يتمسك به الناس جميعاً لنرتقي بمجتمعنا نحو الأفضل.
رقم العدد 16210