الجماهير/ بقلم حميدي هلال
الوضع المعيشي الضاغط على حياة المواطن بدأ يترك أثره النفسي والاجتماعي ، وما يلحقه من أعراض بدأت تظهر لدى الغالبية العظمى من المواطنين ، تمر علينا لحظات شرود ينفصل فيها العقل الظاهر عن العقل الباطن ، ويغوص في عوالم لا تنتمي إلى الواقع بصلة ، لحظات انفصام وشرود تنتابنا في العمل ، في البيت ، في الشارع ، في السرفيس ، على طوابير الخبز، وفي قاعات الامتحان، وحتى في أوقات الصلاة أيضاً في المساجد والكنائس ، و المهرجانات الخطابية والأمسيات الأدبية ، وكثيراً ما نتكلم مع أنفسنا في وقت الضحى ونهلوس في المساء .
بالأمس داهمتني ساعة شرود ذهني وأنا في طريق عودتي من العمل إلى البيت ، حيث تجاوز السرفيس الموقف المتوجب علي النزول فيه ليتعداه إلى نهاية الخط ..
في لحظة حلم عابر ، ولا أعلم إن كانت أحلام اليقظة كأحلام المنام في الحكم الشرعي والقانوني ، ويقال: إن الحلم المزعج أو السيئ يجب عدم إخبار أي إنسان بمحتواه .
فجأة لم أعد أرى نفسي ، أو أشعر بوجودي ، نظرت في المرآة ، أنا غير موجود ، جسدي قد انفصل عني ، أو ربما هاجر وتركني إلى الأبد ، بدأت بعملية جرد سريعة لجسمي وملحقاته، تفقدت رأسي ، وبدأت بمراكز الحواس لدي ، الأذنان ، العينان ، الأنف ، اللسان ، المخ ، اليدان ، الرجلان ..كلها موجودة والحمد لله ، أخذت بتجريب عملها وفحص مهامها ووظائفها واحدة تلو الأخرى ، مررت على السمع ، جربت مختلف موجات الصوت القصيرة والطويلة والإف إم ، لم أستطع التقاط أية إشارة ، بدأ الرعب يتلبسني بدءاً من أسفل قدمي .
أردت تجريب البصر ، التفت عن يميني وعن شمالي ومن بين يدي ومن خلفي ، يا إلهي لقد زاغ بصري ، و طُمس على عيني ، ازدادت موجة الفزع لدي ، أسرعت بتجريب الشم ، واللمس ، والتذوق ، كلها مفقودة ، كيانات موجودة لكن لا عمل لها ، معطلة ، حاولت عبثاً النطق ، طلب النجدة ، الاستغاثة ، هممت بالوقوف والنهوض ، لكن أطرافي لم تستجب ، لقد تعطل عمل المخ، وفقد سيطرته على كامل البنية التحتية في جسدي ، تعطل عمل الأعصاب والعضلات ، وتوقفت ماكينة القلب عن ضخ الدماء ، وجفت العروق ، وتراكم الطمر في كافة السواقي وقنوات الصرف الصحي في جسدي ، شعرت بنفسي وكأنني أصبحت سقط متاع قديم ، لا حول لي ولا قوة ، لزوم ما لا يلزم ، ميت أنا ، أو أقرب إلى ذلك ، أو في حكمه .
بدأت أحمل هم العائلة والذوي والقرابة بعد أن يتم الإعلان عن وفاتي وتعليق نعوتي على أبواب المساجد ، ما هو حجم الحزن الذي سينتابهم ، وكيف سيتحملون عبء الحياة من بعدي ، كيف لهم أن يقيموا الاحتفال بموتي ، يذبحوا الذبائح، ويقيموا الولائم ، و يصنعوا طعاماً للناس، وتقام الأناشيد الدينية والعراضات ..من سيتحمل تكاليف دفني وقبري وأنا موظف لم أورث عائلتي سوى الديون ..!!؟ وماذا سيكتبون على شاهدة قبري … أشياء وأشياء بدأت تطحنني ، تسحق جمجمتي ، تشل تفكيري ..
قطعت أم العيال المشهد و اقتحمت علي المكان والزمان ..
رويت لها قصة شرودي، لتقترح علي مراجعة دائرة النفوس واستخراج بيان عائلي لجميع أفراد الأسرة لنتأكد من وضعنا ، أحياء فعلاً أم أننا أموات على قيد الحياة، أموات مع وقف التنفيذ، أموات ننتظر فقط شهادة الوفاة ..؟؟!
رقم العدد ١٦٢٣٨