الجماهير – محمود جنيد
في ذلك الموقف تداعى لي قول الشاعر ربيعة بن عامر ” الدارمي ” ” قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فلعت بناسك متعبد……” ..؟
فماذا فعل الزمن بالمليحات ذوات الخُمر السوداء التي تغطي الوجوه الشاحبة البائسة، لنساء رمت بهن الظروف المعيشة الحالكة، على قارعة الطريق و الأرصفة، يلتقطن أرزاق عيالهن كلبؤات منكسرات حطمت الظروف أنيابهن، واقتلعت المخالب منهن، كتلك التي صادفناها مساء أمس منزوية في ظلمة الليل المخيم على سماء المدينة ، حيث انعدام الكهرباء، وبرد الشتاء الذي لايجد ما يرده من “مازوت” ووسائل تدفئة، على الرصيف المحاذي لإشارات مرور دوار الشرطة، وقد افترشت ما تيسر من “أكلات” كالبسكويت وماشابه.
سألناها من باب الفضول عن الظروف التي ساقتها إلى ماهي عليه، لتفاجئنا الإمرأة الخمسينية (كما ذكرت لنا) بداية، بأن زوجها على قيد الحياة لكنه عاطل عن العمل، ويقبع في مسكن العائلة الذي يشبه القبر (غرفة عفنة مظلمة لاترى الشمس تحت درج أحد أبنية المناطق الشعبية)، وعاجلتنا بالمفاجأة الثانية، معرفة عن نفسها كخريجة ادب انكليزي، وتتقن ثلاث لغات أخرى، لكن ظروف مرضها لم تتح لها فرصة التوظيف في أحد قطاعات العمل الحكومية، ومظهرها (طريقة لباسها) التي رفضت المساومة عليها، لم تسعفها للالتحاق بعمل ضمن القطاع الخاص.!
وخلال سياق حوارنا معها الذي طلبت اختصاره حتى لا نلفت نظر، وتخسر الركن الذي هناك من غض الطرف عن تواجدها فيه، استعرضت جمل حوارية بالإنجليزية، لتؤكد لنا مصداقيتها، مع مناشدات بعدم التقاط اي صورة لها او تسجيل صوتها، مضيفة بأن تضحيتها، بهكذا عمل، تبتغي فيه بركة الرزقة القليلة إضافة لما يتحنن عليها بعض زبائنها، افضل من التسول، أو ضياع أولادها الخمسة التي كرست حياتها لأخذهم قسطا من التعليم ، القراءة والكتابة كأضعف الإيمان.!
اخجلتنا بكرمها واصرارها على أن “تضيفنا” مما لديها، ذات الخمار الأسود الذي يخفي تحته، البأس والبؤس، والتضحية والقهر، في زمن غادر تعس، يعيش فيه تجار الأزمات و الفاسدين “هاي.. هاي…” ، ويكبس فيه الدراويش، على جراحهم ويصرخون في سرهم “واي… واي”، يعيشون من قلة الموت، دون أن يجدوا من يحذو حذو الشاعر الأموي المسكين (ربيعة بن عامر) الناسك المتعبد الخارج من معتكفه لمهمة اعتبرها انسانية، ويسمع صوتهم ويرفع نقاب الموت السريري البطيء عن وجوههم المحنطة.!!!!
رقم العدد ١٦٢٥٨