عندما يتكلم الإعلام مع نفسه..!

الجماهير/ بقلم حميدي هلال

كلما قلبت في أرشيف الجريدة أجد مواد لا تزال قابلة للنشر من جديد ، ليس من باب البحث في الدفاتر ” العتيقة ” كالتاجر المفلس ، وإنما لأن الحدث الذي كُتب من أجله منذ عقود لا يزال قائماً ، لم يتغير أو يطرأ عليه أي تعديل ، وما كتبناه بالأمس ربما يصلح للحاضر والمستقبل ما لم تتغير سياسة المسؤول ..!!
قضيت عشرين عاماً في العمل الصحفي وحتى هذه اللحظة أشعر أنني لم أخرج عن إطار ممارسة هواية الكتابة التي تشربتها منذ سنوات الإعدادية ، وكنت أحسب نفسي سأغير العالم بعد تخرجي من قسم الصحافة والعمل في الحقل الإعلامي ، واعتقدت أنني صرت أملك سلطة تمارس في وجه الفاسدين لنصرة ” الغلابة ” من المواطنين ..
وطيلة تجربتي ، لم أفلح في إحداث أي أثر واضح في واقع المجتمع ، أو إماطة الأذى عن الطريق ، ولو بأضعف الإيمان ..!!
وتحول دوري إلى مجرد عاشق وهاو للكتابة.
ما فائدة الكتابة الصحفية التي ليس لها رجع صدى ، أو أن تخط أثراً ولو في رمال ، أو ترسم دوائر ولو على صفحة ماء راكد..؟ صحافتنا باتت لا تتعدى كونها ” حكي جرايد ” أو هواية نمارسها .
على مدى سنوات طويلة من عمر صحافتنا لم نستطع أن نحرك حجراً في طريق ، ولم نسقط ورقة صفراء عن عورة فساد ، ولم نضع لبنة في مدماك الإصلاح.
عشرون عاماً في مهنة المتاعب..أنا وزملائي لم نقصر في الكتابة عن الواقع الخدمي ، تجاوزنا حدود المدينة ، ووصلنا إلى أعماق الريف ، ودخلنا القرى والمزارع ، ولم نفلح في تغيير بنية وعقلية الجهات ذات الصلة في معالجة القضايا الكبرى التي نطرحها ، في المسألة الزراعية ، و السكن العشوائي ، ولم نساهم في حل مشكلة المواطن، القمح ، القطن ، الكهرباء ، تجارة الأمبيرات ، المخابز ، المحروقات ، العقارات ، الحد من ارتفاع الأسعار ، زيادة الرواتب والمعاشات ، البطالة وتشغيل الشباب ، انتشال الناس من الفقر ، ولم نغير شيئاً في سياسة التعليم ، ولا في الواقع الصحي ، أو قطاع النقل ، لم نطح بمدير فاسد ، ولم نتحمل وزر وزير ، ولم نمسك ناصية متنفذ ، ولم نستطع اصطياد حيتان المال وتجّار الحرب، ومضاربي الليرة والمتحكّمين بلقمة الشعب على كثرتهم!
عقلية السياسات الاقتصادية لا تزال هي هي ، لم تتغير ، ولا منهج تفكير القطاع العام ، أو القطاع الخدمي ، ولم تتحسن دورة اختيار الكفاءات الادارية .
الإعلام السوري في السنوات الأخيرة خطا خطوات جبارة في رحلته التي تقاس بالمنجز لا بالزمن، فهو قد تجاوز حاجز الزمن برغبة قوية وشغف لا ينتهي كي يكون إعلاماً وطنياً مسؤولاً يعرف كيف يتعامل مع الأحداث لتصل إلى الجمهور بكل أمانة تقتضيها مسؤولية الإعلام وبكل وضوح وشفافية فأنتج عشرات البرامج الخدمية الجديدة و ” المتعوب عليها ” في التلفزيون السوري ، بدءاً من برنامج ” الحال ” وانتهاء ب ” إيدنا ع الوجع ” ، كانت ولا تزال مجرد صيحات استغاثة ، أُفرغت من أهدافها ، لأنها لم تشكل استجابة حقيقية عند متلقي الرسالة وهو الجهة الخدمية المتمثلة ” بالمسؤول ” ، يمر البرنامج مرور الكرام دون أن يحدث أي تأثير استراتيجي وفاعل في سياسات الجهات المعنية ، والحلول تأتي على الهواء ، وتذهب مع الهواء ، إسعافية ، آنية ، موضعية ، إزالة لأعراض المرض ، مسكنات ، دون علاج ناجع ، كلام في كلام ، لا يتعدى مستوى ذبذبات صوتية تطوف في الفضاء الرحب ، ليعاد تدوير المشكلات والقضايا وإنتاجها من جديد ، وهكذا ندور في حلقة مفرغة ومحكمة الإغلاق .
سنوات وسنوات وكأن الإعلام يتكلم مع نفسه ، لا أحد ينصت إليه أو يسمعه ، كأنه قرع طبول جوفاء في أفراح عشوائية تقام في غير وقتها..! وكأن من نخاطبه لا يفهم لغتنا ، أو أننا نقول ما لا يُفهم .
ومع ذلك لم ولن يتسلل اليأس إلى أقلامنا ، ونحن مستمرون بممارسة الكتابة ولو في إطار الهواية للتنفيس عن احتقان الذات ، كمن يتكلم مع نفسه خلسة ، أو يبكي بحرقة لعله يرتاح..!
فإلى أين نحن سائرون ..؟؟ عن الإعلام وأثره أتحدث .
رقم العدد ١٦٢٧٨

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار