الجماهير / بقلم المهندس باسل قس نصر الله، مستشار مفتي سورية
مَدَدتُ يدي لآخذ قطعةً صغيرةً من القطن فيها قليل من زيتٍ مقدس، شَممتُ رائحة القطنِ، وفجأة وجدتُ نفسي هذا الطفل “باسل” البالغ الثامنة من عمره.
رائحة البخور في قدّاسِ “الجمعةِ الحزينةِ”، ورائحة قطعة القطن هذه، أعاداني لنصف قرنٍ مضى، لِسنواتِ الطفولةِ الشقية، لباعة “الكعك” الموجودين في هذا الوقت، في ساحة فرحات بحلب، لباعة “الغزلة” ولأصوات الأطفال، وصوت فيروز السماوي يرنِّم “اليوم عُلَّق على خَشبة”.
هذا الطفل الذي لم يفهم لماذا عليه واجب إحناء الرأس أمام المسيح المُسجّى، ولماذا يجبُ عليهِ أن يَطلب منه أن يسامحه على أخطائه “الطفولية” وكنتُ أفكِّر لماذا سيهتم بي إن أخذت تفاحة من دون إذن، أو كذبت قليلاً لكي أشاهد “التلفزيون” أو .. أو .. أو.
عدتُ صغيراً لم يفهم الفصح إلّا هدايا وبيضٍ ملوّن و”صيصان”، والجمعة الحزينة هي أن يذهب مع الكبار الى الكنائس، وكان كل اهتمامه عندما كان يقف محني الرأس – لأن الكبار هكذا علّموهُ – هوَ أن يخرج من الكنيسة الى ساحة فرحات ليشتري الكبار له “كعكاً” و “بوشاراً” لأنه فّعلَ كما يُريدون ولم يُعَذِّبهم في التجوال.
اليوم أسترجع الذكريات الجميلة دورة الكنائس في يوم الجمعة الحزينة، أتذكر الحجارة في الكنائس، والأرصفة في الشوارع، وكم لعبتُ عليها وأنا أمسكُ بيدِ خالتي التي رَبتّني، واضعاً قدماً على الرصيف وقدماً في الشارع، وأسيرُ معها وهي تشدني، وأتململ كلما وقفنا لتحيةٍ ما، لأنني أنتظر أن نذهب لنشتري الكعكة المدورة المعلقة على قضيب خشبي، يرفعه البائع من طرف ويُخرج الكعكة منه، ثم يأتي دور الغزلة الملونة التي أصر أن يكون لونها زهرياً، فلا أعتبر أنه يوم الجمعة الحزينة إذا لم أمارس فيها التقاليد الكنسية التي أفْهمها، وهي الدخول الى الكنيسة وإحناء الرأس مع أن العيون تدور في كل الاتجاهات، وبعدها شراء القطن المقدس، ثم الالتقاء بالناس، أما في العيد فأهم شيء بالنسبة لي هي الثياب الجديدة، وكنت ألبس كالكبار … طقماً لكي أبدوا كرجل صغير جداً، وأهم شيء أن تكون ياقة القميص قاسية، لكي أبدو تماما كالكبار ولن أنسى الحذاء الأبيض.
هذه الذكريات التي تمر بي الآن أراجعها فيغصُّ بي حلقي، أين الكنائس وأين الساحات وباعة الكعك والطفل “باسل” الذي تُغريه بَطنه الصغيرة، أين الأطفال والكبار .. أين الساحات .. أين دورة الكنائس والحجارة والأرصفة.. هَاجَرت الحجارة وهاجرت الأرصفة كما هاجر الكثير .. وصوت فيروز أحسه أكثر حزناً، وهذا المعلق على خشبة .. ألن ينزل؟ … ألن يُهاجر هو أيضا؟
عشرة أعوام مرّت على جُمعة سورية الحزينة.
المسيح قام … حقاً قام وأنا أكتشف بعقلِ ذلك الطفل الصغير “باسل” الذي لم يتجاوز الثامنة من عمره أن المسيح “السوري” هو من قامَ، ومن سورية.
سورية التي اعتقدوها ماتت .. ستقوم أيضاً من حلب.
اللهم اشهد أني بلغت
رقم العدد 16367