الجماهير / يمنى حمامي
لابد لك وأنت تفتح إحدى حقائبك التي تحتفظ بها بملابس قديمة ، أن تفاجئك لحظة فتحها رائحة الصابون ، وعلى الأغلب يكون ( الغار) ..
و في أثناء تلك المباغتة ، ستسحب أنفاسك في محاولة للسفر عبر الزمن إلى فترة معينة من حياتك لا تنساها !!
هنااااك و تحت عباءة الليل ، و كل شيء رغم سكونه مستيقظ ، و تستطيع أن تتماهى معه ، وأنت تسير في الحارات ، ذلك الليل الذي يعرفه سكان مدينتي أكثر من غيرهم ، كونها بالفعل كانت تسمى المدينة التي لا تنام ، و كعادتك في ليلة ما ، و أنت في طريق ذهابك إلى باب الحديد ، وصولا إلى باب النصر ، حيث يكون عليك في كل مرة تمر بها من هناك مقابل طلعة (تراب الغرباء) ، أن تستجمع حواسك ، لتشهق عبق الغار الأصلي ، حيث تنتشر بالمكان ذراته .. لترتبط تلقائيا بذاكرة التاريخ .. وتعشش فيها ،
إنها حاسة الشم ، أكثر الحواس التي تتمكن منا ، على حين غفلة .
فهي تستطيع نقلنا بلحظات إلى البساتين التي تغص بروائح من أريج ممزوج من كل ما قد مر على شهيقك ، وتشعر كأنك لم تزفره يوما ، و ظل حبيس الذاكرة !!
نعم ، فالأمر لا يحتاج منك سوى أن تمد يدك إلى خزانة ملابسك القابعة في تلك الغرفة التي قضيت فيها طفولتك وصباك ، وتخرج قميصك المختمر برائحة الغار ، والذي امتهنت والدتك وظيفة وضعه بين ملابسك ، لتجعلها تفوح عطرا دائما ، وتحميها من كل هامة قد تصلها ،
و هو ذاته الصابون الذي يختزل العطر في باطنه ، ثم تنساب رغوته على جسدك خلال حمام دافيء ، و قد كان مختئبا ضمن بقجة حاجيات الذهاب لحمام السوق ، ليكمل رحلته في منظومة من الماء الحار ، ليتعشق بالجدران ويترك أثره ممزوجا برائحة الدريرة والبيلون ، ليحولهم البخار لخلطة سحرية تخلصك من الشوائب العالقة في صدرك ، إنه ذلك اللوح و الذي اعتادت أيضا والدتك تمريره على رأسك بضع مرات مع ترانيم خاصة بها ، تشدوها في كل مرة بلا كلل أو ملل ، لتتناغم رغوته مع شدوها لتخرج من استحمامك كمن ولد من جديد ..
ولا أظنك قد نسيت أيضا سجاد بيتكم ، والذي كان يزين تلك الليالي الشتوية ، وهو مدعوك بالغار جيئة وذهابا بيدي والدتك ..!!!
لتنسجم رائحته مع الحرارة ،
فلقد كانت صلته بالنظافة صلة وطيدة ، تظهر جلية مع كل استخدام ، حتى في تنظيف قدور الطبخ ، تراه حائرا ما بين الأيدي .. لكنه مطواع لك .. و يستحيل جزءا من كل ما يتعشق به ..
فما علاقة لوح صابون الغار بوالدتك ؟؟
هو يشبهها في تفانيها ، وتزداد قيمته في تقادمه ..
لقد اشتهرت مدينتنا بصناعته . حتى أصبح ماركة مسجلة ، وتطورت صناعته مع مرور الوقت ، و أدخل في تركيبته العديد من الروائح والنباتات الطبيعية ، ليضفي سحرا على رائحته ، و بقيت لألواحه الخالصة من أي مواد إضافية ، سوا زيوته المعتادة ( زيت الغار و زيت الزيتون كمواد اساسية ) ، تلك الصدارة كيف لا ، و رائحته كانت صلة وصل ما بين جدران منازلنا و خلايانا ، و له في كل زاوية جزء من حكايانا .
رقم العدد 16368