الجماهير / بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
خذ حكمةً تأتيكَ بالخيراتِ
ودع الجهولَ بمرتعِ اللذاتِ
فلربّ نُصحٍ شادَ كلّ محاسِنٍ
ولربَّ جهلٍ عادَ بالويلاتِ
لا توجد مشكلة في الحياة إلا ويبتدع لها الحلول، ولا يمكن أن تهيمن الهموم على القلوب إذا كانت عامرةً بالإيمان، ولا تسيطر الأزمة على العقول إذا كان رائدها الحكمة.
يتساءل المرء حين تطول عليه الكروب عن سبيل النجاة، ولنا في تاريخنا القديم والحديث عبرة، فما من أزمةً أغرقت الدنيا واستغرقت وقتها؛ بل دائماً تنتهي وتعود الحياة كأفضل مما كانت عليه، والبضاعة المطلوبة في الأزمات هي الصبر والحكمة.
قال تعالى: (ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) سورة البقرة الآية 269 وقال صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالةُ المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) رواه الترمذي.
ولقد استوقفتني حادثة رواها قسطنطين فرانسوا ڤولني (1757 – 1820 م) وهو فيلسوف ورحالة ومؤرخ وسياسي فرنسي.
سأرويها لكم بتصرف …قال:
كان والي دمشق أسعد باشا العظم في يومٍ ما بحاجةٍ إلى المال للنقص الحاد في مدخرات خزينة الولاية، فاقترح عليه حاشيتُه أن يفرض ضريبةً على المسيحيين، وعلى صُنَّاع النسيج في دمشق…
فسألهم أسعد باشا: وكم تتوقعون أن تجلب لنا هذه الضريبة؟ قالوا: من خمسين إلى ستين كيساً من الذهب.
فقال أسعد باشا: ولكنهم أُناسٌ محدودو الدخل، فمن أين سيأتون بهذا القدر من المال؟
فقالوا: يبيعون جواهرَ وحُلِيَّ نسائهم يا مولانا!
فقال أسعد باشا: وماذا تقولون لو حَصَّلتُ المبلغ المطلوب بطريقة أفضل من هذه؟!
في اليوم التالي، قام أسعد باشا بإرسال رسالةٍ إلى شهبندر التجار لمقابلته بشكل سِرِّي، وفي الليل وعندما وصل شهبندر التجار قال له أسعد باشا: نَمَا إلى عِلْمِنَا أنك ومنذ زمنٍ طويل تسلك في بيتك سلوكاً غير قويم، وأنك تشربُ الخمرَ، وتُخَالِفُ الشريعةَ، وإنني في سبيلي لابلاغ اسلامبول، ولكنني أفضل أن أخبرك أولاً حتى لا تكون لك حجةٌ عليَّ!!!
أخذ الشهبندر المفجوع يتوسل بما يسمع ويعرض مبالغ مالية على أسعد باشا لكي يطوي الموضوع، فعرض أولاً ألفَ قطعة نقدية، فرفضها أسعد باشا، فقام الشهبندر بمضاعفة المبلغ، ولكن أسعد باشا رفض مجدداً، وفي النهاية تَمَّ الاتفاق على ستة آلاف قطعة نقدية!
وفي اليوم الثاني قام باستدعاء القاضي وأخبره بنفس الطريقة مضيفاً أنه يقبل الرشوة ويستغِّل منصبه لمصالحه الخاصة، وأنه يخون الثقة الممنوحة له! وهنا صار القاضي يناشد الباشا ويعرض عليه المبالغ كما فعل الشهبندر ، فلما وصل معه إلى مبلغٍ مساوٍ للمبلغ الذي دفعه ذاك، أطلقه، فَفَرَّ القاضي سريعاً وهو لا يصدق بالنجاة!
بعدها جاء دور المحتسب، وآغا الينكجرية، والنقيب، وكبار أغنياء التجار من مسلمين ومسيحيين.
بعدها قام بجمع حاشيته الذين أشاروا عليه أن يفرضَ ضريبةً جديدة لكي يجمع خمسين كيساً وقال لهم: هل سمعتم أن أسعد باشا قد فرض ضريبة جديدة في الشام؟
فقالوا: لا، ما سمعنا..!!
فقال: ومع ذلك فها أنا قد جَمَعتُ مائتي كيس بدل الخمسين التي كنت سأجمعها بطريقتكم، فتساءلوا جميعاً بإعجاب: كيف فعلت هذا يا مولانا؟!
فأجاب: إنَّ جَزَّ صوفِ الكِبَاشِ، خَيْرٌ من سَلْخِ جُلودِ الحُمْلان.
فهل تتكرر حادثة جز صوف الكباش، ويُترُك الحملان ليلتقطوا أنفاسهم ويتنفسوا الصعداء .؟؟
اللهم ارفع من شأن الشرفاء في وطني وأبعد الفاسدين، وفرّج عن وطننا العظيم سورية يا أرحم الراحمين.
رقم العدد 16368