حسين قاطرجي
طبيعية، بريئة ومجدية كانت وسائل التبريد والتخلص من الحر!
واليوم حُسِمَ الأمر وتغيّر كل شيء. صار الناس يبتردون بكبسة زر..
ساد الإسمنت وهربت القرى إلى المدن وكثرت المراوح والمكيّفات التي تهيّج الروماتيزم، ودفع البشر ثمن ارتياحهم من صحة الليالي الماتعة والسهرات الصيفية على سطوح المنازل.
إنّ السعيد من كان له بيتٌ مرصوفٌ بالحجر الأبلق أو الرخام الملوّن، له فتحةٌ سماوية، وتحوطه حديقة من نارنجٍ وأترجّ، تتخاطر في الليل وتتمايل في النهار، ودالية عنبٍ تبلّل عناقيدها المتدلّية نافورة تتوسط المكان، وفي البركة بطيخةٌ حمراء باردة تنتظر أن يوضع العشاء لأناسٍ سعداء..
كان القائظون من أجدادنا يتحرّون مواطن الفجوج المتشقّقة من الجبال حيث تيارات الرياح الزاخرة بالرطوبة؛ فيجعلون عندها مبارك النوق ومرابض الأغنام وبيوت الشعر.
وقد اتقى أهل البادية الحرّ بالخيام المصنوعة من شعر الماعز المجزوز، وكانوا يُشرعون أبوابها بحسب اتجاه الريح ممّا يوفر لهم ظلاً كتيماً يتلافون به وهج الشمس، أما الوبر فكانوا يجزّونه ليصنعوا به الحشايا والتكايا.
أمّا البدوي فيحمل وطنه معه، فإذا ساءته أرضٌ بطقسها؛ هجرها، فتراه يجمع خيمته ومتاعه القليل، وحمل أهله على الهوادج ومضى بهم إلى حيث الابتراد بالواحات وجريد النخل ومواضع الماء الشريب. حتى إذا ما ألفوا ساقيةً أو شلالاً أو نهراً مُنداحاً أعجبتهم نداوة المكان الناجمة عن تلاطم الماء وانتشار رذاذه، فتراهم يضعون أغراضهم عنده ويقيمون في المكان مرحلة.
والبدوي يتحسّس زكاوة البئر العامرة من شميم الريح، ويهتدي إلى أماكنها بنظرٍ وحدسٍ وقدرةٍ ترحاليةٍ عجيبة.
في محتوى الكتاب مادةٌ متنوعة، تبدأها الكاتبة بحديثها عن علاقة الناس بالطبيعة، وكيف استفاد منها وأخضع ما استطاع من جبروتها، ثم انتقلت إلى الثمار المبرّدة، والأشربة المرطبة لحلوق الناس المتيبّسة من لافح الحر، وعدّدت ملابس الصيف الخفيفة بما في ذلك أنواع الأغطية التي تحجز الناس عن استقبال الشمس برؤوسهم، وقد توصلت الفطنة البشرية إلى حلولٍ عمرانية في التصميم المدهش للدور العربية قبل الهجمة الإسمنتيّة والذي يمنع تسرّب الحرارة وتغلغل البرد؛ بما فيها من باحاتٍ داخلية وأواوين وفسقيات ودهاليز وبادنجك وأقبية وبراجيل، ونوافذَ مستورة بالأخشاب المتشابكة (المشربيات).
وليس لعلاج الرمضاء إلا تدفّق الماء وتحريك الهواء، وكان الناس في هاجرة الصيف يشربون الماء عذباً بارداً كالثلج من “شربةٍ” مصنوعةٍ من فخارٍ غير مطلي توضع في مسارب الهواء المتجدّد؛ فيرتشح الماء من مسامها ويستقرّ العكر في القاع فيصير الماء شروباً فراتاً يروي الظمآن، وتسمى هذه الحادثة “بالتبريد التبخّري”.
تبدأ موجات الحرّ بالارتفاع بعد فترة الربيع المائس، وتبدأ تنضج على إثرها فاكهة الصيف. وكان أهل الشام يطلقون على أولى موجات الحر “طباخ المشمش” ثم “طباخ الكرز” وهكذا يتولى طباّخٌ إثر طبّاخ حتى تمضي أربعينيّة الصيف ويبقى الناس في شُغُلٍ دائم سعياً لاتّقاء الشمس وتلافي لهيبها. ورغم الحرّ فإنّ بعض الينابيع المتفجّرة من شقوق الجبال تكون باردةً كالصقيع حيث ينفلق البطيخ الأحمر إذا ما وضعه المحرور بها فتكون له طعاماً وسُقيا، ومجلبةً للريّ والانتعاش.
في الكتاب فصولٌ عديدة عن الأساليب البدائية الناجحة التي اتّبعها الأجداد في اتقاء فيح الحرارة في صَيْهَد الصيف اللاهب، حاولت تجنّب ذكر تلك الفصول ليكتشفها القارئ بنفسه، وربّما يحاول تطبيقها إذا ما خانته نعمة الكهرباء وانقطع تيارها في وقت الحاجة إليه. وكثيرٌ ما حصل.
صدر الكتاب عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2017، ويقع في 280 صفحة من القطع الكبير، وهو أحد ابداعات الكاتبة السورية الكبيرة “نادية الغزي” التي تحترف هذا النوع من الدراسات، وقدمت للمكتبة العربية عشرات الكتب التي تُعتبر مرجعاً في مجالها وفي لغتها المتمكّنة والثرية.