بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
بَيِّن لَهُ مَعنى الثَباتِ فَلَيسَ مِن
خُلُقِ المُجاهِدِ أَن يَكونَ ملولا
وَإِذا نَظَرتَ إِلى المَمالِكِ لَم تَجِد
مِثلَ الثَباتِ عَلى الحَياةِ دَليلا
وَلَقَد رَأَيتَ الناهِضينَ فَهَل تَرى
إِلّا خَلائِقَ سَمحَةٍ وَعُقولا
هي أبيات للشاعر المصري أحمد محرم ؛ المُتوفى سنة (1945م)، رأيت فيها تصويراً لحال أبناء وطني سورية عموماً وأبناء مدينتي العظيمة حلب خصوصاً؛ هؤلاء الصامدون أمام الأزمات وحيال تلك الهجمة الشرسة التي جُيّش لها جيوشهم الحقد والغل والحصار الجائر.
ودائماً نجد في تاريخنا العريق ما يمكن أن نقتنصَ منه العِبَرَ التي تُعينُنا على صياغةِ الواقع بما يَكفل تقدمه ورقيه في الحياة؛ وما نتجاوزُ به الأزمات، فمثلاً في مفهوم الثبات يمكن أن نستدعي مواقف حصلت في السيرة النبوية منها: عندما أراد بنو سلمة أن يخرجوا ويتحولوا من منازلهم، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اثبتوا، فإنكم أوتادها) أي أوتاد الأرض. رواه الطيالسي. وعندما تحدث صلى الله عليه وسلم عن فتنة الدّجال قال: (يا عباد الله اثبتوا) رواه الترمذي. فالثبات على الحق من أهم عوامل النصر على الباطل.
والثبات على الحق يحتاج في كل حينٍ لداعمين ومشجعين يرفعون من الروح المعنوية ويدفعون الآخر للثبات؛ وقد رُويت حكاية في هذا المعنى عندما عُوقِب ﺍﻹﻣﺎﻡ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ بالسجن في فتنة المُعتزلة بقي ثابتاً على الحق رغم دخوله السجن وتعذيبه وقد دخل السجن معه بعض من ارتكب ما يُعاقب عليه ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ بينهم ﻟﺺ ﺷﻬﻴﺮ ﻭﻛﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻠﺺ ﻳﺤﺘﺮﻡ ﺍﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ ﻭﻳﺸﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﻣﺤﻨﺘﻪ، ﻭﻛﺜﻴﺮًﺍ ﻣﺎ ﻫَﺮَّﺏَ ﻟﻪ ﻃﻌﺎﻣًﺎ ﻃﻴﺒًﺎ ﻣﻦ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺴﺠﻦ، ﻭﺫﺍﺕ ﻳﻮﻡ ﻻﺣﻆ ﺍﻟﻠﺺ ﺃﻥ ﺍﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ ﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ ﺟﺮﺍﺡ ﺍﻟﺘﻌﺬﻳﺐ ﻓﻤﺎﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﻫﻤﺲ ﻟﻪ :ﺇﻧﻬﻢ ﻳﻌﺬﺑﻮﻧﻚ ﺃﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ ؟ ﻭﻟﻜﻦ ﻟﻌﻠﻤﻚ ﻳﺎ ﻣﻮﻻﻧﺎ ﻛﺜﻴﺮًﺍ ﻣﺎ ﻋﺬﺑﻮﻧﻲ ﻷﻋﺘﺮﻑ ﺑﻤﺎ ﺳﺮﻗﺘﻪ ﻭﻟﻜﻨﻨﻲ ﻛﻨﺖ ثابتاً ﻭﻟﻢ ﺃﻋﺘﺮﻑ ﺃﺑﺪًﺍ، ﻛﻨﺖ ﺃﺣﺘﻤﻞ ﺍﻟﻀﺮﺏ ﺻﺎﺑﺮًﺍ ﺃﻓﻌﻞ ﻫﺬﺍ ﻭﺃﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ ﻓﻜﻴﻒ ﻭﺃﻧﺖ ﻋﻠﯽ ﺍﻟﺤﻖ؟! ﺇﻳﺎﻙ ﻳﺎ ﻣﻮﻻﻧﺎ ﺃﻥ ﺗﻀﻌﻒ؛ ﻳﺠﺐ ﺃﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻗﻞ ﺍﺣﺘﻤﺎﻻً ﻣﻦ ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ.
ﻭﺍﺳﺘﻤﺮ الإمام ﺍﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ على ثباته، ﻭﻛﻠﻤﺎ ﺿﻌﻒ ﺗﺬﻛﺮ ﻛﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻠﺺ. ﻭﻇﻞ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻓﻲ ﻣﺤﻨﺘﻪ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﻛﺎﻟﺠﺒﻞ ﻭهُزِمَ المتآمرون كلهم ﺃﻣﺎﻡ ﺭﺟﻞ ﻭﺍﺣﺪ، ﻭﺧﻤﺪﺕ ﺍﻟﻔﺘﻨﺔ، ﻭﺗﻮﻗﻔﺖ ﺇﺭﺍﻗﻪ ﺍﻟﺪﻣﺎﺀ، ﻭﺍﻓﺮﺝ ﻋﻦ الإمام ﺍﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ، حيث ﺧﺮﺝ من السجن ﻓﻤﻜﺚ ﻓﺘﺮﺓ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻣﻦ ﺟﺮﺍﺣﻪ، ثم ﺗﺬﻛﺮ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺠﻦ ﻓﺴﺄﻝ ﻋﻨﻪ ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ ﺇﻧﻪ ﻣﺎﺕ، ﻓﺬﻫﺐ ﻳﺰﻭﺭ ﻗﺒﺮﻩ ﻭﺩﻋﺎ ﻟﻪ. ﺛﻢ ﺷﺎﻫﺪﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﺎﻡ. ﻓﺮﺁﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻓﺴﺄﻟﻪ: ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺩﺧﻠﻚ ﺍﻟﺠﻨﺔ ؟ ﻗﺎﻝ ﻟﻪ: ﺗﺎﺏ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻲّ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻧﺼﺤﺘﻚ ﺃﻥ ﺗﺤﺘﻤﻞ ﻭﺗﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺇﻋﻼﺀ ﻛﻠﻤﺔ ﺍﻟﺤﻖ.
لقد أثمر ذلك التشجيع على الثبات جنات وعاد على صاحبه بكلِّ الخيرات، وكذلك سيثمر تشجيع شعبنا بعضه لبعض ولرجال الله المدافعون عن الأرض والعرض النصر والثبات والنجاح والفلاح بإذن الله تعالى.
اللّهم إنَّا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، أكرمنا بنصرك الذي يُعيد علينا أمن بلادنا وطمأنينة شعبنا ودفء مجتمعنا يا أكرم مسؤول.