الجماهير – بيانكا ماضيّة
كلما تم الحديث عن سيطرة هذا العالم الأزرق على وقتنا وعقولنا، أتذكر ذاك الرسم الكاريكاتوري الذي رسم فيه طالب يُحضر للامتحان، وخلفه الفيسبوك على شكل إنسان ينكزه من كتفه، في دعوة منه إلى دخول صفحاته وإلهائه عن دراسته.. هذا مايفعله للأسف الفيسبوك في كل تفاصيل حياتنا، يبعدنا عما يجب القيام به، يلهينا عن الضروريات فيوقعنا في السطحي والمكرر، على الرغم من أن هناك بعض المنشورات القيّمة التي نطالعها ونطلع من خلالها على إبداعات الآخرين وأفكارهم ونتاجهم.
في الأمس حين انقطاع هذا العالم عن عالمنا أدرك الكثيرون أهمية الوقت، وأهمية التواصل الحقيقي، ومدى مايشغله هذا العالم من حياتنا، ساعات بتنا فيها خارج هذا العالم الذي يضج بالكثير في حالة من الفوضى، ربما هي فوضى الأفكار وفوضى الحواس وفوضى الطروحات وفوضى الحروف، هذه الفوضى التي تدعونا لأن نعيد ترتيب الأمور بمجملها؛ لإعادتها إلى مكانها الصحيح، فقبل دخولنا هذا العالم أو فرضه علينا كانت تفاصيل حياتنا مختلفة كليّاً عما نعيشه اليوم. ساعات بتنا خارج هذا العالم ولكنه كان خروجاً جميلاً أتاح لنا استغلال الوقت في شيء مفيد.
منذ أشهر بعيدة كنت قد حمّلت قصة الليالي البيضاء لدوستويفسكي من الإنترنت لقراءتها، علماً بأني كنت قد قرأتها منذ سنوات بعيدة، ومضت الأشهر، الشهر تلو الآخر، ولم أتمكن من قراءتها لأسباب عديدة، البارحة كانت الفرصة ذهبية لقراءتها فهي لاتتعدّى المئة وعشر صفحات، قرأتها واستمتعت في هذه الساعات بقصة ماتعة من قصص هذا الروائي المبهر، فكانت ساعات بيضاء دخلت فيها عالماً غير أزرق، عالماً أبيض يشعّ فيه النور والحب والحياة، عالم هذه الرواية المختلف كليّاً عن عالم التواصل الاجتماعي، إنه العالم الذي نفتقده حقّاً، عالم الكتب الذي يوسّع من مداركنا ومفاهيمنا ويجعل نظرتنا نحو الكون مختلفة.
ساعات في انقطاع عن عالم، ولكنها دخول إلى عالم آخر بتنا نفتقده، عالم الألفة والتواصل الحقيقي، عالم التفكير العميق، عالم الخيال الفسيح، عالم الانفراد مع الروح المتعبة لتزويدها بشيء من حلم وسكينة وخيال.