بقلم عبد الخالق قلعه جي
في كتابه الأغنية العربية ، أفرد الناقد الموسيقي صميم الشريف ، فصلاً للحديث عن فضل الدين المسيحي والإسلامي على الغناء العربي .
أورد الشريف أسماء معظم العمالقة ذوي الأثر ، الذين انطلقوا من الكنائس والجوامع ترتيلاً وإنشاداً ، نذكر منهم : أم كلثوم .. فيروز .. وديع الصافي .. صباح فخري وآخرون
أخذني إلى هذا الاستهلال .. ما استمعت إليه ، بصوت القديرة ميادة بسيليس ، وهي تشدو :
أراك إلهي بما صنعته يداك فأنشد منك الهدى ويملأ قلبي سناك
واحد من مقاطع عدة كنا معها في دار التربية بمنطقة الفيلات بحلب التي استضافت أمسية ” بيننا يحيون ” التي قدمها كورال حنين صافيتا .. تحيةً إلى ميادة بسيليس وذلك في الحادي والعشرين من تشرين الثاني الفائت .
الكثير من النقاط يمكن الحديث عنها في هذه الأمسية بدءاً من عنوانها ، وبرنامجها الغنائي والوثائقي .. وما جاء فيه .. كلاماً ومقتطفات من غناء .. وجمهور قدم التحية للسيدة ميادة ..حباً ووفاءً ، كما لو أنها حاضرة على المسرح .. ترنم وتغني وتطرب .
بكل أبعاده البعيدة كان العنوان ” بيننا يحيون “حاضراً ..صفاءً ونقاءً .. روعة وسحراً ولعلها – ميادة بسيليس – كانت أقرب من أي حضور مضى .. بدتْ .. وكأنها طلعت من برزخ قَدَر ، بعدما أزاحت ستار .
بعيداً عن الكلشيهات المصطنعة والإدعاءات المزيفة .. وبكل البساطة العظيمة ، والعفوية والصدق ، الذي ملأ المكان ، قالت : ” أشعر دائماً أن لدي مسؤولية .. وأعمل حساب كل شخص موجود في الصالة يستمع إلي …”
تتابع : ” عندما أقف على خشبة المسرح .. أشعر وكأنني أقف في مكان مقدس ”
قالتها ميادة ، دون أن تذكر أحرفها … وكتبتها إبداعاً مع الكبير سمير كويفاتي ، عبر خمسة وثلاثين عاماً ، وعشرات من الأغاني .. للحب .. للوطن .. للإنسان و..للحياة .
هي ذي الرسالة التي كتبتها ميادة ، احتراماً للذات ، أولاً ، وللناس .. دونما غرور أجوف أو استجداء .. و ملأى السنابل …
لا غرابة حقيقة ، فصاحبة الرسالة تدرك قدسيتها وقاراً .. رفعة ورقياً .
بلا نحْتٍ في صخر ، ولا غَرْفٍ من بحر .. وبكل امتناع السهل .. خلاصةٌ للقول والصمت ، شكلها السميران “طحان ، كويفاتي” وبسيليس .. ” الناس لم ينسوك ..أحببتِهم فأحبوك “.
أجل.. وبكل بساطة..هي ذي بعض الحكاية ،هكذا كانت ترانيم تلك الأمسية ورسائلها.
تفاصيل كثيرة ، ودفق محبة عارمة ، عبَقَ المكان بسحرها .. نشرتْها صمتاً كلماتُها .
تفاصيل .. ما جاءت من فراغ .. فميادة بما حباها الله من صوت ، وما أودعها من روح ومحبة ، كانت صاحبة مشروع ، تقاسمته مع سمير كويفاتي ، الملحن والموزع والمايسترو، وكل الألقاب التي يرفضها .
أربعة عشر ألبوماً .. شكلت مسيرتها الفنية وذلك مع ” يا قاتلي بالهجر ” أول ألبوماتها الذي صدر عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين ، خلقت جميلة .. أبانا .. بقلبي في حكي .. شجرة العيد .. حنين .. أجراس بيت لحم .. مريميات وغيرها .
الكثير من الأغاني الأخرى ، قدمتها بسيليس أيضاً عطر تراب .. مسكاً وعنبراً ..عربون أمل ومحبة ، لحلب الشهباء وللوطن الحبيب ، إضافة إلى غناء الكثير من شارات المسلسلات السورية .
لست الآن ، في معرض سرد السيرة الذاتية للقديرة ميادة بسيليس .. إنما بعض ما أخذتني إليه تلك الأمسية ” بيننا يحيون ” ولِمَ حازت كل هذا الحب .. واستحقت ما استحقت .
لعله الهوى الثاني ، الذي جعل منها أنموذجاً .. يحتذى ، في تألق الروح والإيمان والمحبة .
لعله الاحترام والتعلم والإبداع .
ولعله التواضع والوفاء .
لعله الحُلُم لمدرسة غنائية سورية حديثة .
ولعلها اجتمعت كلها .. ما جعل دمعةً – كانت تعلم – أنها لابد ستنسكب ..
أودعتُكم يا كرامَ الحي .. أنا رايحة
والروحْ تَمَّتْ عندكم .. أما الجسد راح
حديثٌ للروح سرى .. تسابيحَ جوىً وتسامياً وخشوعا
كم من موتى بيننا يحيون
صمتٌ نطق .. نستأذنك شاعرنا الكبير عمر أبو ريشة .. لنقدَّ على شطرك شطراً.. أجلالٌ .. جلَّ أنْ يُسْمَى جلالاً .