الجماهير – عتاب ضويحي
جلست بين أكوام القمامة تنقب هنا وتبحث هناك عن ضالتها، وبينما هي منهمكة وقعت بين يديها قطعة قماش مذهّبة، أثارت انتباهها وإعجابها، وبغريزة الأنثى بدأت تجرب القطعة القماشية بحركات مختلفة، تارة تربطها على خصرها، وأخرى على صدرها، وأخيرا على رأسها، تضعها والبسمة تبدو واضحة المعالم على شفتيها، تجمع عدداً من العلب الكرتونية ترتبها بإتقان وتمضي حيث قلبها، لا عقلها، يرشدها، منفصلة بتيه واضح عن واقعها، تحدث نفسها بصوت عال مرة ومنخفض أخرى لايهمها من حولها أو بالأصح هي لاتراهم.
كان شاباً في مقتبل العمر، يبدو طبيعيا، لكن ما إن توقف عن المشي حتى بدأ يتمتم بكلمات غير مفهومة، وأخرى فيها من المعنى الكثير، وتابع السير محدثاً نفسه، لايعرف وجهته لكنه يمضي ويحث المسير إلى المجهول حتى أدرك ممن هم حوله أن الواقع لفظه بعيداً عنه .
كل يوم وكالعادة يأتي ذلك الشاب إلى المخبز، وقبل وصوله مشارف الحارة يبدأ بأسطوانته اليومية، “الفاتحة، الفاتحة، على روح المرحومة، سلام سلام يا…” ينعتها بصفة ما ثم يمضي ليعاود نفس الأسطوانة في اليوم الذي يليه.
لحظات قدرية غيرت مجرى حياة هذه الفئة التي باتت مألوفة في شوارعنا، أعمار متفاوتة وأجيال متباعدة، نقطة تحوّل كانت بمثابة بوصلة جديدة لحياتهم، غيّرت رياح المجهول مسار أشرعة أيامهم ،ونثرتهم هنا وهناك، كل له حكاية لايعلمها إلا هو، أخرجته من عالم “العقلاء” إلى عالم “المجانين”، يهيمون على وجوههم في الشوارع بأجساد هزيلة وثياب رثّة ، ورائحة عفنة، يقتاتون من مكبات القمامة كالحيوانات المتشردة، فئة منسية ضحية الإهمال والنسيان نمر بها ولانكترث لها، تقطعت بهم أسباب الرعاية والإيواء، ولايقل خطرهم على الآخرين عن خطرهم على أنفسهم، ولكن ربما بقليل من الرعاية يعود منهم لحياة العاقلين، وربما يبقى البعض الآخر هائماً في عالم المجانين.