الجماهير- بيانكا ماضيّة
قبل عشر سنوات، وحين ودّعتها لأيام قليلة، ريثما يحلّ عيدا الميلاد ورأس السنة لأعود إليها، لم يكن يخطر على بالي أنّ السبيل إليها سيتقطّع، وبأني بدل أن أمكث بعيداً عنها أياماً فقط، ستطول الفترة حتى تبلغ سنوات خمساً، وما أتعس من يخرج منها، أكان مرغماً أم بإرادته!
الخروج من حلب يعني أن تعيش الغربة، أياً كانت المدينة التي تقصد، فمن ترعرع في أمكنتها واشتمّ عبق رائحتها، وتنشّق هواءها، وعاش بين ضلوعها، سيشعر أن روحه اقتلعت منه حين يغادرها، وما أقسى اقتلاع الروح!.
وتأتيك الأخبار عنها، عن دمارها وخرابها، عن سرقة معاملها، عن استفحال القتل والذبح فيها، وتبكي حرقة عليها وعلى أهاليها الذين ذاقوا الأمرّين من شرّ أطبق عليهم من كل الجهات، حتى خلوا أن هذا الجحيم المستعر، هذا النفق السوداوي المعتم لانهاية له، وأنّ لا بصيص نور يلوح في الأفق.. لكن صليب عذاباتهم لابدّ من أن يشهد القيامة.
وكانت القيامة، وكان (ماقبل حلب ليس كما بعدها)، وكان يومها مطر غزير تساقط ليروي هذه الأرض العطشى للتحرير، وامتلأ فضاء حلب بأصوات الرصاص، ما الخبر؟! لقد تحرّرت حلب!! ما أجمله من تحرير، وما أكثر الدموع التي انهمرت فرحاً بذاك اليوم البهيج!
كنت أنصت من البعيد لصوت الرصاص المنهمر كالمطر، زغاريد النساء اللواتي كنّ على الشرفات تطرب قلب سامعيها، لقد قامت حلب، وهاهي تتبختر بقدّها الميّاس لترسل جوابها للعالم، لمحبّيها، لتغنّي قدودها التي طال الظلام عليها.
لقد ذاقت حلب كأس المرّ، ولكنها أبت أن تبقى في ظلامها، فبصمود أهلها، نفضت عنها رداءها الأسود لتشرب خمرة الحب من أيادي من دافع عنها بروحه ودمه.
خمس من السنوات مضت على التحرير، وحلب تستعيد كل يوم عافيتها، نهضت كالفينيق من تحت الرماد؛ لتقول للعالم أجمع: خمرة الحب اسقنيها!.