الجماهير- بيانكا ماضيّة
كانت ضحكاتهم هي الرّنينُ الأخير لذهبِ البطولة المخزون في أرواحهم..
أحدَ عشرَ كوكباً من كواكبِ الجيش العربي السوري، يتعاهدون فيما بينهم على الدفاعِ عن “مشفى الكندي” وعن حلب وسورية كلها، ويعلنون استعدادهم للشهادة: “كلنا على درب الشهادة سائرون”..
هكذا بدَوْا، بنبراتهم القوية وقسمات وجوههم الواثقة، في آخرِ فيديو لهم، ختمه كوكبٌ منهم: “والنصر لنا”.
“أساطيرُ الكندي”، “ملائكة الكندي”، “قدّيسو الكندي”، و”آلام السيد المسيح” هي بعض الألقاب، التي أطلقها السوريون على أحدَ عشرَ جندياً بطلاً، حَمَوْا قلعتهم وساترَ حلبَ/ مشفى الكندي، لثمانية أشهرٍ متواصلة من عام 2013، وصمدوا فيه في مواجهةِ المئات من مرتزقةِ أميركا وتركيا و”إسرا*ئيل” إر*هابيي “جبهة النصر*ة”، حتى لحظةِ استشهادهم.
كانت جحافلُ الإر*هابيين تحاصرُ حاميةَ المشفى من جميع الجهات، ولم يكن لدى أفرادها من عواملِ الصّمود سوى إرادتهم الباسلة وأرواحهم الشجاعة. قاوموا أسوأ ظروف الحصار بأقل الإمكانات، فكانوا يقتاتون على الأعشاب والأدوية، ولم يسمحوا للجوع والعطش والحصار أن ينال من عزيمتهم أو يجبرهم على نقض عهدهم مع وطنهم وشعبهم. استشهد منهم العشرات، وأصيب العشرات، وفُقد العشرات، ولم يظهر منهم سوى أحدَ عشرَ كوكباً، سجّلوا ضحكاتهم الأخيرة..وقَسَمَهم الأخير، وقاتلوا حتى نفدت ذخيرتهم.
أحدَ عشرَ كوكباً كانوا على الأرض، لكنّ الرّصاصَ الإر*هابيّ الكافرَ رفعهم، واحداً واحداً إلى السماء..
كانت أجسادُ الرّفاقِ تنكمشُ، لدى سماعِ رصاصة المسدس ورؤية رفيقهم الشهيد يهوي، مقبّلاً التراب الذي استشهد من أجل كرامته، لكنّ الرّؤوس ظلّت مرفوعة، كي لا تسقطَ منها صور أمهاتهم وآبائهم وزوجاتهم وأبنائهم، وكي يظلّ الوطنُ والجيش عزيزين.
كانوا أحد عشر كوكباً، ارتقوا شهداءَ، جميعاً، ولم يبق منهم سوى التماعِ بطولتهم وصليلِ أرواحهم الباسلة في آذان شعب يصارع الموت كي يظفر بالحياة.
كؤوس دمهم كانت تلمع على موائد العشاء الأخير، هذا هو الدم، دم العهد الجديد الذي يراق من أجل الخلاص، والجسد الذي يُهدى إلى الوطن من أجل النصرِ والسّلام.
بنيان ونّوس (طرطوس، الشيخ بدر)، حسام مينة (اللاذقية)، جادو أبو سرحان (السويداء)، قاسم أصلان (إدلب)، بشار يوسف (طرطوس صافيتا)، محمود قره علي (دمشق، دوما)، أحمد إبراهيم العطو (تل عرن، ريف حلب)، مصطفى شحادة، عبدالله الملقب طيبة الإمام، ومضر وسليم، وغيرهم ممن قدموا ملحمة نصر شهدت سورية كلها بها، وبعضهم مازال مفقوداً، وبعضهم مازال تحت الأنقاض.
هؤلاء ليسوا أسماء، حسب، إنهم قدّيسونا الشهداء، الشهداء الأحد عشر، الذين ملأت صورهم وسائل الإعلام بعد وقوعهم في الأسر، ونشر إرها*بيّو “جبهة النصر*ة.” مقاطع فيديو توثّق عملية إعدامهم الوحشية في حلب بتاريخ 4/ 1/ 2014 بينما تم إعدامهم ميدانياً بتاريخ 20/ 12/ 2013.
يستحقون تخليد ذكرهم!.
في لقائنا مع السيدة سهيلة العجي والدة الشهيد بنيان ونّوس، وهي التي كتبت رواية عن استشهاد بنيان، تقول: نتمنى أن تدرّس ملحمة النصر التي قدمها هؤلاء الأبطال في المناهج التعليمية في سورية حتى المراحل الجامعية، فهي دليل ووثيقة شرف لكل إنسان سوري، الشهداء الذين أسميتهم أنا أنبياء بعد الرسالة يستحقّون منا هذا التوثيق لنخلد ذكرهم في تاريخ سورية.
وحالياً أتواصل مع المعنيين بالشأن الفني والثقافي لتحويل روايتي التي كتبتها إلى فيلم سينمائي عن شهداء الكندي ليبرز هذا الفيلم بطولاتهم الأسطورية التي قدموها على مذبح الوطن.
كتبت السيدة سهيلة في صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي ذات يوم: “عندما كنت أريد التخلص من هذا المولود الطارئ الذي لم يخطر لي على بال ، والذي سيعوقني عن تحقيق مشاريعي الكثير وقتها،وسيربك عملي ،ويؤخر طموحي إلى نجاحات لم أكن أعرف ما هي، ناهيك عن قسمي _ بعد ولاداتي الثلاث السابقة وشعري الذي تساقط منه الكثير ،وعظامي التي هشّت ،وأرقي المتواصل وقلّة نومي في تلك الأيام _ الذي أقسمته بأن القصة انتهت ،ولا مجال لولد رابع، فقد استُنزفتُ واستُنفِد مخزوني النفسي والبدني كله.
تحول هذا التَطيّر من الولد الرّابع إلى استبشار، وهذا الهُروب إلى عشقٍ مرضيّ وحبّ غير عادي،وقد كان أكثر ميلاً مني ،فشفع لي محاولاتي الفاشلة لإسقاطه طريحاً،
وتشاؤمي يوم سمعتُ بمشروع قدومه لحياتي ،بل جلدني بالحب والطاعة والتعلق اللانهائي .
يبدو أن العدالة كانت تتربص بي وتستبطن لي مصيراً مروّعاً كي تخطفُهُ من روحي بعد أن أصبح قطعة مني ،بل لا أبالغ إن قلت: أنا الفرع وهو الأصل، وبعد إظهار غيبته أصبحتُ غصناً يابساً يبكي أصله المقطوع” .
وسافر شهداء الكندي إلى كل الجهات دون أن يسمع العالم ضجيج الأسئلة في أرواحهم، سافروا ونهضتْ شقائق النعمان من عطر الدماء الطاهرة، أجساد تحولت إلى زهور وعصافير وسنابل قمح، لتشقّ طريق الخلاص لفرح بلون قوس قزح وابتهال يصّاعد إلى السماء..