الجماهير- بيانكا ماضيّة
“جايينكم .. وسنذبحكم، جميعاً”.
“استسلموا.. فلا مجال للهرب، لأنّنا نحاصركم من كل جانب..”
“انجوا بأرواحكم.. وتوقفوا عن المقاو*مة..”
“ياعناصر السجن… سلّموا أنفسكم.. واخرجوا إلينا أربعة أربعة”.
هكذا كان يصرخ مرتزقة أميركا وتركيا والكيان الغاصب الصهيو*ني بمضخّمات الصوت لتحطيم إرادة أبطال “سجن حلب المركزي” ودفعهم إلى الاستسلام، لكن حامية السجن كانوا يردّون عليهم بالقول:
(يامسلّحين، تعالوا أنتم إلينا، وسلّموا أنفسكم خمسة خمسة.. قوى الأمن الداخلي ستسوّي لكم أموركم وستستفيدون من مراسم العفو).
وظلّ الإر*هابيّون يفعلون هذا طيلة فترة حصار السجن، التي استمرّت مايزيد عن ثمانية عشر شهراً، لكن هؤلاء الأبطال أثبتوا أنه يمكن للشجاعة أن تجعل (الأسطورة) جزءاً من التاريخ الإنساني السوري.
لا ملاحمَ في تاريخِ الحروبِ في العالمِ، ترقى إلى الملاحمِ التي سطّرها أبطالُ الجيش العربيّ السوريّ في تاريخِ الحرب على سورية. حكاياتُ الصمودِ والدفاعِ والهجوم هي حكايات تُنسج بماءِ الذهب، كتبها الأبطالُ بقوةِ الإرادة والتصميم على البقاء، بجراحِهم، بدمائِهم، بصبرِهم نهاراتٍ وليالي، بعشقِهم لأرضٍ وهواءٍ سوريين، فكيف تُسطّر الحروفُ عن تلك الملاحمِ، تعجز اللغاتُ عن الإحاطةِ بتفاصيل الحكاياتِ الأسطورية التي دوّنها أشاوسُ سورية وأسودُها؟!
صمودُهم تاريخيٌّ، ودفاعُهم أسطوريٌّ. كلّ قوى الظلامِ والبغي اجتمعت لقتالِهم، فصمدوا ولم يهابوا الموتَ، دافعوا كما لم يدافع جنديّ عن بلاده، متمسكّين بعقيدةِ حبّهم للأرض التي أنجبتهم. كثيرة هي الحكاياتُ والقصص، ولكن حكايةَ الصمودِ تبدأ من سجن حلب المركزي.
عامٌ ونصف العام كانوا في صراعٍ مع أعداءِ الحياة، أبطالٌ سطّروا ملحمةَ هذا السجن الذي دافعوا عنه دفاعَ المستميتِ عن أرضِه وبلادِه. كلُّ الحكايات تتراجع؛ لتتصدّرَ الواجهةَ، حكايةُ الصمودِ التي أذهلت العالم.
كلّ شيء كان إلى نقصانٍ في ذاك السجن: الأكل والوقود والذخيرة والمواد الطبيّة، ورغم هذا بقي الأبطالُ صامدين. قصّة الصمود هذه رواها الملازم المجند فراس سمير فوزي في أحد المواقع الإلكترونية، ونعود لنصوغها هنا بطريقة أخرى.
في أحد الأيام استيقظ أبطالُ حاميةِ السجن على مكبّرات الصوت من قبل إر*هابيي جبهةِ النصر*ة وأحرار الشام الذين كانوا يحاصرون السجن، يطالبونهم بالاستسلام والخروج، وأعطوهم مهلةَ يومين؛ لتنفيذِ عملية الخروج من دونِ سلاح، لكن الأُسودَ لاتستسلم، فمن تعرّض لاشتباكات وحصارات وتفجيرات لا تهمّه تهديداتٌ. رفض حماةُ السجن الخروجَ والاستسلام، ولكنهم بعد يومين استيقظوا على صوتِ انفجارٍ كبير، وهجومٍ عنيفٍ على الباب الرئيس للسجن. وتمكن الحماةُ من تكبيدِ الإر*هابيين خسائرَ كبيرة، فكانت فرحتهم عظيمة، وتعاهدوا على الصمودِ والبقاءِ حتى الشهادة أو النصر. وعاد الإر*هابيّون مرة أخرى للهجوم، وتمكن الحماةُ من صدّه أيضاً لكن الدماءَ لابد من أن تروي الأرضَ، إذ استشهد عنصران، وتم دفنهما داخلَ ساحاتِ السجن.
أما الهجوم الأكبر والأعنف فقد رافق انعقاد مؤتمر جنيف (2)، إذ أتت الأوامر من الجهة الداعمة للإر*هابيين؛ للسيطرة على السجن، فاستخدموا في هذا الهجوم العديد من الآليات الثقيلة، وبدؤوه بتفجير كبير أدى إلى وقوع شهداء وإصابات في صفوف الحامية والسجناء. وبفضل تضحيات الشهداء تمكنوا من صدّ هذا الهجوم العنيف.
الحزن والألم على الرفاق الشهداء الذين رووا بدمائهم ترابَ السجن لايجعل الأبطال يائسين، إذ يمدّهم بعزيمة أكبر على الثأر لأرواح رفاقهم. منهم من استشهد في إحدى موجات الهجوم على السجن، فحين رمى المسلحون النارَ بجانب سورِ السجن، غادر الملازم جعفر زويد النقطةَ المكلّف بحمايتها، وبدأ بمؤازرة النقطة التي تتعرض للهجوم من قبل الإر*هابيين، وقام برمي القنابل عليهم، وقتل العديدَ منهم، ولكنه استشهد في أثناء هذه المعركة. رفيق آخر استشهد خلال عملية جلب الذخيرة المرماة من الطائرة، وكان أخوه في انتظاره، ولكنه عاد شهيداً..
المواقفُ التي تعرّض لها حاميةُ السجن محزنةٌ ومؤلمة، ولكن رغم الصعوباتِ والظروفِ القاسية وفقدانِ الرفاق، عاش حماةُ السجن الأبطال أجملَ اللحظات، تلك اللحظات التي زادت من تماسكِهم وقوتِهم، والعودةِ بشهدائهم وجرحاهم.
في أحد الأيام سمعوا أصواتاً تأتي من تحت الأرض، إذ كان المسلّحون يحفرون الأنفاق للوصول إلى البناء وتفخيخ أماكن وجود العناصر، فما كان من حامية السجن إلا اللجوء إلى الحفر فوق أنفاقهم وضخّ الماء في نفقهم، ما أدى إلى هبوط هذه الأنفاق، وإفشال محاولاتهم.
الحالات النفسية التي مرّ بها هؤلاء الأُسود كثيرة، ولكنهم كانوا يخرجون منها بعزيمة وإصرار على الصمود، وبالتأقلم مع الظروف المحيطة بهم.
أما عملية التحرير والفرحة الكبرى، فقد بدأت بوصول معلومات لهؤلاء الأبطال بأن الجيش بدأ بالتقدّم نحو السجن المركزي، في هذه اللحظات ترتفع المعنويات وتُشحذ الهمم، فقام الأبطال بنصب الكمائن خارج أسوار السجن، وقتلوا العديد من الإر*هابيين.
وفي صباح باكر أشعلوا النارَ إشارةً لمن يتقدم باتجاههم من قوات الجيش، حينها لمحوا العلم العربي السوري الذي كانوا يحلمون برؤيته مدة عام وشهر، فعمّت الفرحة قلوبهم، ولم يروا إلا الجيش العربي السوري في التلال المشرفة عليهم، وقد بدأ بضرب معاقل الإر*هابيين المحيطة بهم.
دامت المواجهات أكثر من عشرين يوماً في بدء التحرك الأخير والوصول وفتح الطريق.. كانت الفرحة كبيرة في صفوف حامية سجن حلب المركزي، إذ تذوّقوا طعم النصر الذي أتى بعد صبر طويل، هذا النصر الذي لم يكن ليكتمل لولا دماء شهداء وسواعد أبطال الجيش العربي السوري.
وقد استقبل أحد هؤلاء الجنود الأبطال الجيشَ العربي السوري بقصيدة، قال فيها:
قليلٌ أن أجلّك بالتحية
وأن أشدو بوثبات فتية
مُنعنا الغيث حتى كان فجراً
تلقيناك يانعم الهدية
عقدت العزم أن تحيا لنحيا
أحبّتك السماء مع الرعية
فكنت النور بدر كل قوم
وكنت الخير كالسحب السخيّة
حماك الله سؤدداً واعتزازاً
وهلّل في مساعيك العلية
فعهداً أن نضاعف كل جهد
ونبني المجد ذا الأسس القوية
نعم نعم يا أيها الأسد المفدى
فنحن الشبلُ للأُسُد القوية.