بقلم محمود جنيد
اللهم وقد امتحنتنا بالابتلاءات الخمسة « الْخوف وَالْجُوع وَنَقْص مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَات » .. وبشرت الصابرين منا ، فاجعلنا على أحكامك من الصابرين وقد رضينا بما قسمت لنا، ثقة ويقيناً بأنك ابتليتنا لأنك تحبنا فهذبتنا وقربتنا بذلك البلاء وطهرتنا بالبكاء ، وستثيبنا بألمنا أجراً، وبعد حزننا فرحاً، وبعد الضيق سعة و فرجاً، وبعد الضعف قوة ونجاة.
في الثلث الأخير لهذا العام 2021 الأسود الذي زادته أحداث مرفأ اللاذقية شؤماً، استفقدني القدر مذكراً : أحبب من شئت في دنياك الفانية فإنك مفارقه،، لأودع شقيقاي، عمي، خالتاي، فيصبح الرقم/ 5 / مجموع 2021، وهو يوم وشهر مولدي الذي كنت أتفاءل به .
وكنت بعد كل صدمة تدعمها وتتخللها الكثير من النعوات على جدار الفيسبوك الذي صبغ باللون الأسود لأطفال وشباب في مقتبل العمر وشيوخ في خريفه، استحضر عبرة الموت كواعظ ومقوم لتقصيري ومصلح لفساد نفسي ، و أنظر من حولي لاصطدم مجدداً بسباق جري الوحوش المستعر على حطام الدنيا ( بلا تعميم)، أجساد حية انتزعت منها الضمائر، فذلك فاسد يحرص على أن يهبش ما استطاع من بيت مال الشعب كحرصه على التفنن بصناعة شماعات ومبررات عجزه وتقصيره، مواطن لا يجد غضاضة بنهش وسلخ جلد صنوه المواطن ليدبر أموره في رد ظالم على ظلم الظروف، طبيب ما ، تجرد من رداء الإنسانية و المهنية مقابلاً استغاثة ملهوفين على مريضهم العاجز ، لسوء حالته عن ارتياد عيادته ، بالجفاء و التعنت، موظف مرتشٍ أشِر ، وتاجر ما ، متفرعن غشاش جشع ….الخ .
كل ما سلف من نماذج وغيرها و سواها ممن (ران على قلوبهم)، تتذرع بظروف أزمة الحرب و تداعياتها على البلد من عقوبات ودمار وحصار وغيره، لتشرعن فساد نفوسها وغفلة ضمائرها، وكأنها ستعيش أبداً، غافلين أو متغافلين، بأن أحداً لن يأخذ معه إلا عمله الصالح ، ولن يترك خلفه سوى أثر وشهادات بالصلاح أو الطلاح.!
أحدهم و خلال نقاش أردت من خلاله التناصح مع من حضر في تلك الجلسة، نهرني بقوله الذي وافقه عليه الأغلبية للأسف: دعك من الشعارات ( الصبر ، القناعة ، الرضا ، الأخلاق ….)التي لا تطعم خبزاً، في هذه الظروف إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ( غابة..!) ، مضيفاً بأن تغير السلوكيات وفساد الاخلاق نتيجة طبيعية لمجابهة الظروف القاهرة، وطلب مني أمثلة لمن لم تهزه رياح الحياة وتغيره؟!
فحضرني ذلك المشهد الذي وقف فيه ابن شقيقي الصغير ( طفل)، قرب جثمان عمه المتوفى الذي يحمل اسمه( توفيق) أثناء تغسيله قبل مواراته مثواه الأخير، إذ همس بأذن والده بكلام دعا الأخير لإبعاده عن المكان، وعلمت بعدها بأن النور المنبعث من جسد شقيقي المتوفى الطاهر ( توفيق)، شده لتقبيل قدميه، علماً بأن جسد المتوفى بسبب ( احتشاء عضلة قلبية) كحال شقيقي يميل بطبيعة الحال للزرقة و القتامة، في حين تراءى المرحوم لأحد أبنائه في المنام مهاتفاً إياه بصوت شاب ثلاثيني نضر ليؤكد له بأنه مرتاح ويرى الجنة، وهو بين جدران الصندوق البلوكي الذي عليه ما عليه ويسمونه قبراً في المقبرة الحديثة.!
إذاً ذلك العبد الذي انتقل إلى رحمة ربه، كان يعيش بيننا برضا وصلاح في هذا البلد بما لفها من فاقة وظروف قاسية، وقد جاهد طوال حياته ليؤدي رسالته التي أكلمها تجاه اشقائه وأبنائه ليترك خلفه ذرية صالحة تدعو له؛ كل من عرفه من علماء دين.. أصدقاء، معارف، جوار ، الأبعدون قبل الأقربون، شهدوا له بالصلاح والتقى و الاستقامة، فقد كان محباً، طيباً، ودوداً، متسامحاً، هيّناً ليّناً، صادقاً، معطاءً، واصلاً رحمه، حتى وجدتني أواسي بمصابي من تواصل واتصل بي معزياً من مختلف أرجاء العالم، الجميع شهد له بالصلاح و أكد بأن المصاب مصابه.
أطلت ..أسهبت كثيراً، علّي أوصل الفكرة وأحول الرسالة بأمانة.. لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا..!