بقلم عبد الخالق قلعه جي
عندما آن أوان رحيله عنها ..التفت نبي الله إبراهيم إلى حلب حزيناً .. رفع يديه إلى السماء ، وقال : اللهم طيب ماءها وهواءها وثراها ، وحببها لأهلها .
كأنَّ الله استجاب لدعائه ، أن جعل منها ملكوتاً للمحبة ، نذر أنفسهم لها متيمون .. في محرابها مصلين .. تسابيح وجد عُمُرَاً ، ووفاءً .
” كانت ساعة يُمْنٍ وإقبال ، إذ قضى القضاء أن أضطلع بمهمة حلب ، وقصة حلب ، وانضواء حلب في سراديب الزمان والمكان ”
قصة تبدَّت .. روائع نتاجات ، في اللغة والشعر والتاريخ والتراث ، نثر حروفها الأسدي علَّامة حلب .. ونحن نمضي إليه في ذكرى رحيله الخمسين .
لن يتسع المقام لنكون مع سيرة حياة هذا الرجل وآثاره .. نشأته والعوامل التي شكلت ثقافته وشخصيته الفكرية ، وصاغت منه عبر مراحل متعددة ومحطات ، مربياً ولغوياً وشاعراً .
مقام لن يتسع أيضاً للوقوف عند بعض كتب علامة حلب .. بعض أشعاره .. مقالاته ومخطوطاته .. موسوعته “حلب المقارنة ” .. وعند رحلاته إلى العالم .. ولا للحديث عن بتر يده في عرض مسرحي ، ولاعن رحلته إلى بطن الأرض في المغاير ..
” ونادتنا الأرض ، أرض المغاير ، أنتم في عصمة أمومتي .. لكن احذروا الضلال في هذه السراديب .. وقالت لنا فوانيسنا : إن خيوط النور عندي واهية .. أما ترونها تلهث بشق كبد الظلام فإياكم والابتعاد عن مداها ” .
رُفِعَ الستار عن مشهد الجلال فانبثقت أغاني القبة ، قصائد منثورة سبقت عصرها هبت أنسام الحبيب .. ريَّا الأنفاس .. فمزَّق الورد أكمامه .. وافْتَرَّ عن ثغرٍ نضيد .
تكريماً له ، وضع الأديب الباحث عبد الفتاح قلعه جي كتاباً بعنوان “العلامة خير الدين الأسدي” الذي صدر عام ألف وتسعمئة وثمانين .. ومنه نقتطف بعض مادتنا هذه .
في حي الجلوم ، ولد خير الدين الأسدي عام ألف وتسعمئة ، تلقى تعليمه في مكتب شمس المعارف ومدرستي الرشدية و الرضائية .
شُغِف باللغة العربية ، فتبحر في علومها .. وأسس لنفسه مكتبة ضخمة غنية أسهمت في تشكيل ثقافته الموسوعية ، وشخصيته الفكرية والمعرفية .
الأسدي مُعلِّماً .. رحلةٌ بدأها في المدرسة العربية فالشرقية والفاروقية .. الهايكازيان ومعهد اللاييك .. إعداديتي إسكندرون والحكمة .
الكتب المطبوعة بدأت مع قواعد الكتابة العربية ، ومن ثم يا ليل .. البيان والبديع ..عروج أبي العلاء ..حلب الجانب اللغوي من الكلمة .. أحياء حلب .. أغاني القبة .. موسوعة حلب المقارنة .
مخطوطات ومقالات حملت عناوين : الله ….السماء ..أيس وليس .. حلب وغيرها .
عُمُرٌ أنفقه الأسدي ، وهو يعكف على تأليف موسوعته الكبرى ، يرتاد المقاهي .. يلتقي الناس .. يسافر .. يجمع مفردات وتعبيرات لهجة حلب ، وسِجِل حياتها ..من أمثال وحِكَم وحكايات ونوادر ، ومواويل وأهازيج وأغاني ، وعادات وتقاليد وغيرها .. حتى إذا استوى له ذلك بعد طول سهر وفناء عمر وضنى يجل عن الوصف ..أخذ في نسخها .
في سبعة أجزاء ، جاءت “موسوعة حلب المقارنة ” ، عبر أكثر من ثلاثة آلاف صفحة من القطع الكبير ، ولتحظى معها حلب ، بما لم تحظ به أي مدينة في العالم .
” حامل الهوى ما به تعب ” .. لم يكِل الأسدي يوماً .. ولم يمَل ، ما تسلل يأس .. ما فترت له عزيمة ، ولا خمدت جذوة عشق ، لهذه المدينة التي خلدها “هاأنذا يا صاحبي ..أهمس لك أني وحدي .. وحدي ولا شكوى .. ولن تنتظر محبتي جزاءً ولا شكوراً “
نشر الأسدي في العديد من الصحف والمجلات .. الكلمة ، الضاد ، الجماهير ، وكان له برنامجان في إذاعة حلب ” أنت تسأل عن حلب ونحن نجيب ” و” أغاني القبة ” .
إثر مرض ألمَّ به عام ( 1946 ) قدم الأسدي مكتبته ، هدية إلى دار الكتب الوطنية ، التي كان يشرف عليها الشاعر عمر أبو ريشه .. وفي أيار عام (1971 ) كتب وصية قال فيها : لدي مكتبة أخرى أهبها لبلادي والعالم .. تتخذ منها دار تسمى دار الأسدي أرجو قبولها .
في التاسع والعشرين من كانون الأول لعام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين .. وحيداً غريباً .. حُمِل الأسدي من دار العجزة إلى مثواه الأخير في مقبرة الصالحين .. بلا جنازة ولا مشيعين … ولم يجد مساحة مترين تكون له قبراً .. تهدأ فيه عظامه ؟؟؟!!!
لعل بعض من واجب وبِر و وفاء .. أن يقام لهذا العظيم ضريح .. يكتب عليه ” خير الدين الأسدي ” وذلك كما أوصى .
ويبلغ الحب منتهاه .. نعم هذه حلبي أنا : حلبٌ أحلامي ورؤاي …
حلبٌ ولا مِنَّةَ لأحد في البسيطة علي ، فما أكلت خبزي إلا بعرق جبيني … حلبٌ ولا منة لي عليك ، فهودج الكرامة الذي أعتز به .. إنما هو من سرادق عزتك .. وهل تمن حبة البر على الحقل أن نضرته .