الجماهير- بيانكا ماضيّة
مذ أن حلّ العام الجديد، حلّت عليّ اللعنة والبركات، غصت في ألم الرأس والمفاصل والقشعريرة التي تولّدها الأنفلونزا والبرد القارس الذي تغلغل إلى أجزائنا كلها بما فيها أمكنتنا، آلام وآلام، عدا عن الآلام التي يولّدها الواقع، أغوص في النوم فأرى أحلاماً وعالماً خيالياً لا مكان فيه ولا زمان، شخصياته أسطورية تبهج القلب والفؤاد، بساتين وأزهار ونجوم وأقمار، وعمليات خلق للكثير من الأحداث، ثم أصحو لأصدم بالمكان نفسه، والروتين نفسه، والواقع الذي يسوء ويسوء، ومازالت تلك الشخصيات ترفرف في مخيلتي كجنيّات ساحرة، أقاوم البرد والزمهرير والمرض والنفاق والفساد بحبوب مسكّنة وأخرى قاتلة، وأعود أغوص في مجريات الواقع رغماً عني، وفي صفحات مواقع التواصل، وصفحات الكتب، ويعود الألم لرأسي لشدّة الضغوط، وأحارب البرد بالزفير الساخن الذي لم يعد له مفعول مستدام، وأطالع المنشورات وماتقوله العيون الواجفة، وأستنبط أملاً من رحم المعاناة، أرى الضحكات المصطنعة التي باتت متقنة، وألمس الحزن في القلوب، ولهاث الكثيرين خلف كسرة فرح لعلها تطفئ نهم الروح المشروخة من فعل الرصاص والجوع، وأفكر بالكتابة، ويسألونك مانفع الحروف في ظل البرد والحزن والألم، ومانفع الكتابة كلها بعد أن كانت نوراً يستضيء بقناديلها المتعبون، أندير ظهورنا لمآسينا ونكتب عن الحب والشغف، والشوق والهيام، عن الأمل الذي نراه بعيداً، عن الفرح الذي نستولده بعمليات قيصرية، أم لابد من التدجج بكل الأسلحة والخوض في غمار المستنقعات الموحلة، عم نكتب؟! ومازلنا نحارب بكل ما أوتينا لنبعد عنا أشباح الظلام، وما أكثر الأشباح اليوم من حولنا، ضاقت الصدور، والموت فارش جناحيه عن آخرهما لينقضّ على كل من يراه، عم نكتب؟! عن قصص الحرب المدماة، عن قصص الشهادة، عن المآسي والفواجع، أم ننسل خيط الأمل من كل الخيوط المتشابكة العالقة بأدمغتنا، لابد من هذا الأمل، ولابد من صنع عوالمنا بأيدينا، وما أجملها من عوالم بإمكاننا أن نبنيها مدماكاً مدماكاً، لعلها تنقذنا من هذا الواقع المرير، فلنصنع عوالمنا ولو بالخيال، فبعض الخيال أجمل من واقع دام، لقد حلّت علي البركات وأنا أصنع هذا الخيال بكثير من حروف لها طعم العسل، وعيناي لا تنشدان سوى الأفق البعيد، أهيم في الخط الممتد نحو اللانهاية، أصنع من حروفي عالماً يشبهني وأشبهه، وأتلمّس ماتصنعه عجينة الحروف فأرى أحلاماً ليست كالأحلام، وشخصية أسطورية ما احتوتها الأساطير، وفكراً يقضّ مضجعي ليل نهار، أدوخ وأنا أبحث عن المعاني والألغاز والتفسيرات، كل شيء ضبابي الملامح، ولكن وجهه وحده يعوم في كل تلك الأحلام ناثراً ابتسامة لطالما كانت حلمي المنشود، فأردّ بابتسامة مماثلة بل بضحكة مجلجلة!.