د.ناهد كوسا
جلستُ في قاعة الانتظار أنتظرُ موعداً لي مع مؤسسة حكومية لاستشارة قانونية.
سمراءٌ جلست إلى يميني تنتظر هي الأخرى دورها، سِحنة وجهها الشرقية دعتني إلى فتح الحديث معها بالفرنسية بداية :
– حضرتك محامية، مستشارة ؟
– لا (أجابت بلغة شكسبير)
– عربيّة ؟
– آه
– إذاً، كاتبة عدل، مترجمة ؟
– لا (أجابت بلغة الضّاد)
– “شو اللي وصلِّك لهون” ؟ سألتُها مستغرباً لعدم رغبتي بلقاء أبناء جلدتنا في هذا المكان!
– مشاكل كتيرة، أنتَ عارف، الدنيا صعبة الأيام دي … (أجابتني بلكنة مصرية وأضافت) حضرتك محام، لبناني ؟
– لا، أنا من سورية، وأنتِ ؟
– إسكندرانية
– أهلاً و سهلاً.
دار بيننا حوار قصير حول موضوع شائك، قدّمتُ لها بعض الإرشادات حسب خبرتي الاغترابية المتواضعة، ثم خيّم صمتٌ طويل على كل الجالسين في القاعة، معظمهم ينتظر مصيراً مجهولاً.
اقترب مني شخص وسألني بالفرنسية : أنتَ ناهد ؟ نهضتُ مُجيباً بعفوية : نَعم، حاضر. فقال لي : اتبعني.
– ناهد؟ عجيب … نحن نطلقه على البنات ! قالت السمراء مستغربة.
– في سورية نُطلقه على الذكور والإناث كـَ صباح و نور و رغد، أجبتُ مبتسماً:
– حضرتك من دمشق؟
– لا، من حلب .. أتمنى لكِ التوفيق … لقد حان موعد لقائي.
تبدّلت أسارير وجهها .. ثم وقفت قائلة : لو سمحت، سأنتظرك هنا .. أو .. انتظرني هنا بعد انتهاء مقابلتك، عايزة أحكيلك حاجة !
وهكذا حصل، جلسنا بعد مقابلتينا على كرسيين بسيطين، أمام جدار من الإسمنت، بلا موسيقا ولا فنجان قهوة .. كنتُ جاهزاً ومستعداً للردّ وللتعريف باسمي وبجذوره و بكل اللغات .. لكنها بدأتْ الحديث متنهدة كمن يريد إفراغ كل ما في جعبته من هموم دفعة واحدة، قالت :
– انسَ حديثنا السابق، لقد أعدْتَ لي قبل قليل ذكريات سعيدة دون أن تدري .. عُدتَ بي إلى أيام صباي، يوم كنا نلعب لعبة الحظّ، أتعرفها ؟
– لا ! كيف ؟ سألتُها مستغرباً.
– كنا نلعب ونفرح بكل شي .. الحياة كانت أسهل، من غير مشاكل ولا هموم .. و حلب كانت وجهتنا!
– حلب ؟ من الإسكندرية .. كيف ؟ لم أفهم !
استرسلت بالكلام، بعفوية و كأننا أصدقاء منذ سنين طويلة، وأسهبتْ واصفة كيف كانوا يلعبون مع بعضهم البعض، صبياناً و بناتاً، مع الجيران و في مدخل العمارة، إلى أن ذكرت ثانية لعبة بنك الحظ… و فتحت عينيها و سألتني :
ما بتعرفهَاش ؟ كان اسم مدينة حلب يرّن في آذاننا .. و لم يزرها أحد منّا !
الوصول إلى خانة حلب – في لعبتنا المفضّلة، قبل أربعين سنة – كان محطّ كل الأنظار .. هي أغلى المدن و الأقرب إلى الإسكندرية.
كنا نجمع “الفلوس” و نتشاجر على حلب .. من سيشتري أرضاً فيها ؟
كانت رغبتي الأولى من مقابلتنا انتشال السيدة المصرية من وَرْطات لا تُحمد عُقباها، لكن الفأر بدأ يلعب في عبّي حول بنك الحظ .. رأيت نفسي أمام كرة كريستال وساحرة سمراء لا أعرف اسمها !
من أين أتى هذا البنك .. و كيف؟ وما صلته حلب ؟…
عدتُ إلى بيتي بعد أن افترقنا، وبدأت عملية تفتيش و غوغلة على شاشتي الصغيرة بحثاً و تنقيباً .. وكانت المفاجأة لي مفاجأتين :
الأولى، حديث السمراء كان فعلاً عن مدينتي حلب في لعبة المونوبولي العالمية Monopoly الشهيرة (الأمريكية الأصل، منذ 1903 ثم 1935) بإصدار عربي وتسمية مختلفة ..
والثانية، أن حلب لم تكن إحدى أغلى المُدن ثمناً وحسب، وإنما الأقرب فعلاً إلى مدينة السمراء وقد جاورتها في لوحة اللعبة العربية .. إذ عادلت بقيمنها القُدس وبيروت، وسبقتها القاهرة ودمشق، وأخيراً الإسكندرية !
———
* قُصاصة ورق قديمة، من بين مئات القصاصات ورؤوس الأقلام الموزعة على أطراف المناديل الورقية، في خفايا مكتبتي تنتظرُ التدوين في مذكراتي.
الصورة : لعبة بنك الحظ – المونوبولي المصرية على الإنترنت.