الجماهير – أسماء خيرو
ماذا تبقى لنا حتى يأخذه الغلاء ، لقد أخذ منا كل شيء، ألا يكفيه أنه اضطرني لأن أعمل وقد تجاوزت الستين من العمر؟ ألا يكفيه هجرة ولدي وهو بعمر الورد ، ألا يكفيه تشقق يدي من ملامسة الماء ومواد التنظيف وتصلب مفاصلي وتورم أصابع قدمي واحمرارها من البرد الزمهرير ؟ ريح الغلاء مازالت تلطمني وتلطمني وأنا أقاوم وأقف فلا مفر من الكفاح والسعي من أجل لقمة العيش التي أصبح ثمنها غاليا جدا ..
ذلك كان مقتطفاً من حديث العم عبد القادر الملقب بأبي محمد الذي التقيت به في أحد شوارع حلب يجر عربته بعجلاتها الأربع وماتحتويه من خزان صغير فيه ماء ،وقطعة اسفنج ، ومواد تنظيف ، وعدد من قطع القماش لاستخدامها في مهنة تنظيف السيارات، وبلباس يكاد يدرأ عنه البرد.
ويتابع الحديث: لم أخطط يوما لأن تكون مهنة تنظيف السيارات معيلا لي ولعائلتي المكونة من ستة أفراد، معظمهم فتيات، فرغم تحصيلي العلمي المتواضع الذي لم يتجاوز الصف الرابع الابتدائي ، إلا أني كنت أمتلك مهارة يدوية كانت بمثابة الشهادة العلمية التي أدخلتني عالم صناعة الحلويات والسكاكر منذ أن أدركت أن العمل هو سند الرجل في الحياة ،لكن بعد الحرب كل شيء تغير، فلقد توقف معمل السكاكر في منطقة العرقوب الذي كنت أعمل فيه معلم “صنايعي ” وكوني لاأملك المال للبدء من جديد، والعمر يتسرب من بين يدي ولاأدري كيف ، والخبرة “المعلمية “لاتنفع في ظل الغلاء الذي منذ انتهاء الحرب لم يبق لنا شيئاً ولم يذر ، فما وجدت نفسي إلا وأعمل في مهنة تنظيف وغسيل السيارات .
أبو محمد من سكان حي جبل بدرو في مدينة حلب، يستيقظ منذ الصباح الباكر ليقطع مسافة ساعة ونصف للوصول إلى مكان عمله في أحياء وسط مدينة حلب، وعندما ينتهي النهار يقطع مسافة مماثلة للعودة للمنزل ، وهذا بشكل يومي، وهو لايرى في مهنته هذه متاعب سوى الظروف المناخية القاسية ، فالبرد القارس أدى إلى إصابة أصابع قدميه ويديه بالتشقق والتورم والالتهاب .
يقول عن ذلك : عملي يبدأ منذ الصباح الباكر قبل أن يستيقظ سكان الحي ، أجلب عربتي التي أركنها في أحد الأبنية التي أعمل بها عملا إضافيا كحارس ، ومن ثم أغسل السيارة تلو السيارة مستخدما الماء والصابون وقطعة الاسفنج للتنظيف وقطعة القماش للتنشيف وهكذا إلى أن أنتهي من عملي ، وأتقاضى على ذلك أجرا شهريا كان منذ سنوات ليست ببعيدة يكفيني، ولكن هيهات اليوم لم يعد يكفي شيئا ، وبالرغم من أن هذا العمل يعتبر من الأعمال الشاقة والمتعبة كون عمري تجاوز الستين، والبرد القارس أتعب العظام والمفاصل ،ولكن ليس باليد حيلة، فإن لم أعمل نموت من الجوع، وخاصة بعد أن سافر ولدي الذي كنت أعتمد على مساعدته، فلم يبق لي معيل سوى الله سبحانه وتعالى، مضيفا أن الحاجة مرة، وأنا لم أعتد على طلب المساعدة من أحد ،فطيلة حياتي كنت معتمدا على جهدي وتعبي، وسأظل كذلك إلى أن يأخذ الله أمانته ، وأتمنى أن أموت وأنا أعمل .
تلك كانت نبذة من حياة رجل بسيط طحن بين رحى الحرب والغلاء، ولكنه بالرغم من ذلك مازال يعمل بقلب باسم وإرادة قوية زادها الحمد والرضا، وبالتأكيد هناك الكثير من أمثاله ،ولانجد كلمات تعبر عن حاله سوى مقتصف من قصة “الشتاء الحزين” والذي جاء فيها : هكذا تأتي علينا الأيام وتتوالى فصولها الحزينة ، تترجى الرزق وطلب العيش ، وتشقى بتوفير القليل من احتياجاتنا التي لاتكفي ، نغسل الثياب البالية، ونسد الجوع ببعض ماتوفر ، ونجهض الرغبة في الشبع ، بنصف الحاجة نعيش ، نمنع الدموع المترقرقة المحبوسة في الأهداب من السقوط ، ونقمع الآهات في الصدور ونكتمها ، ولكننا بشوشون باسمون مقبلون على الحياة ، وكأن رغد العيش موفور إلى حد التخمة ويحركنا إلى المزيد المزيد.