العقيد يونس قرفول صنع تاريخاً من المجد ومضى

أُبي حسن

ودّعت قرية “بيت قرفول” قضاء الدريكيش يوم الأحد 6 آذار 2022 العقيد المتقاعد يونس محمد قرفول الذي كان قد سلّم الأمانة إلى باريها عصر يوم السبت الماضي (5 آذار 2022).
لم يكن الراحل شخصاً عابراً في الحياة، فبمعزل عن عراقة عائلته (آل قرفول) المجبولة بمكارم الأخلاق و سلامة الدين والتقوى، فوالده الشيخ محمد قرفول نجل العلّامة الشيخ علي محمود قرفول صاحب الكرم و الجود شقيق العلّامة والأديب الشيخ محمد محمود قرفول، هو رجل صنع تاريخه بنفسه دون أن يبحث عن شهرة، كما لم يعنه حبّ الظهور، إذ آمن بأن ما يفعله هو مجرد واجب.. واجب تجاه وطنه وناسه وأهله الذين أحبّهم وأخلص لهم حتى الرمق الأخير من عمره الشريف، والمسنون، نسبياً من أهل قريته ما زالوا يتذكّرون بكثير من المحبة و الامتنان كيف كان يعلّم القرآن الكريم لفتية القرية عام 1957 تحت شجرة الخرنوب..
وبين الولادة و تسليم الأمانة ثمة حكاية تستحق أن تروى.
العقيد يونس قرفول..
ولد العم “أبو حازم” -كما يناديه أهل القرية- في قرية “بيت قرفول” قضاء الدريكيش عام 1936، وسماه والده “أحمد”، ولسبب ما قام الوالد، بعد أربع سنوات، بتسجيل ابنه في سجل الوفيات، ثم يغيّر له اسمه إلى “يونس” معيداً تسجيله بهذا الاسم وبتولّد عام 1940.
عاش الفقيد في طفولته وفتوته، كأقرانه، حياة الفقر وشظف العيش، ما زرع في نفسه حُبّ العمل على تغيير الواقع نحو الأفضل، قارناً القول بالعمل في هذا السبيل، ومصداق قولنا نجده في لهفته لمساعدة المحتاجين وتقديم الخدمات لطالبيها، كما كان يُقدّم جزءاً من راتبه لبعض من يعرف أنّه بحاجة من عناصره إبّان خدمته العسكرية، وهو عملياً حديث عارفيه وذاكري فضله. وما يزال أهالي قريته يتحدّثون عن دوره الكبير في شق الطرق فيها ولو كانت على حساب بعض ما يملكه من أرض.
نال الفقيد شهادة الثالث الثانوي سنة 1959، وتوظّف على إثرها في الجمارك في مدينة اللاذقية حيث أمضى في وظيفته عامين. في اللاذقية سيتعرّف على الدكتور وهيب الغانم أحد أبرز مؤسسي حزب البعث في سورية، وسيحضّه الدكتور الغانم، بعد أن يلمس إخلاصه لقيم حزب البعث ومبادئه وأخلاقه، على الانتساب إلى الجيش كون الوطن بحاجة إلى ضباط أكفاء وشرفاء لا سيّما أن النكبة الفلسطينية لم يكن قد مضى عليها 12 عاماً.

وفعلاً، سينتسب “يونس” إلى الكلية الجوية عام 1961 وستكون دورته أول دورة تشارك في ثورة الثامن من آذار عام 1963. من بعدها سينتقل الضابط يونس الذي كان من أوائل الضباط المتطوعين في منطقة الدريكيش، إلى الخدمة في سلاح المدرعات في حلب، ومن ثمّ يذهب للخدمة إلى منطقة “بانياس” في الجبهة حيث يعيش ويشهد تفاصيل المناوشات بين جيشنا و جيش الاحتلال الإسرائيلي في تلك الفترة، ونظراً لكونه كان دائماً يحرز المرتبة الأولى في جميع الدورات التي كان يخضع لها، فقد تم وضعه في اللواء الضارب وصانع الانقلابات في سورية حينذاك أعني اللواء 70 و هناك سيطلب منه أحد رؤسائه (و هو من منطقته) طلباً غير لائق من رئيس إلى مرؤوسه (الوشاية بزملائه)، خاصّة أن ذلك الضابط الكبير كان يشغل موقعاً متقدماً في الجيش سنتذاك، وسيرفض الضابط “يونس” ذلك الطلب مما يثير سخط رئيسه عليه.
كان للعقيد يونس دوره البارز في نجاح حركة 23 شباط عام 1966 في حلب، حيث هو من استولى على إذاعتها، وتواجه مع اليمين البعثي هناك ممثلاً بالضابط بدر الدين جمعة الذي حاول جاهداً إحالته إلى محكمة ميدانية، لكن محاولته باءت بالفشل، واللافت أن الضابط جمعة سينضم لاحقاً إلى زمرة الرائد سليم حاطوم ليشاركه عصيانه الشهير، وسيكون شريكاً لحاطوم في المصير ذاته.
وعلى خلفية أزمة البعث عام 1968، سيكون خياره مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، ليقف إلى جانبه في حركته التصحيحية عام 1970.

العم يونس قرفول في شبابه.
عاش العقيد يونس 86 عاماً، و لم يملك منزلاً في دمشق التي سكنها قرابة الستين عاماً، كما لم يتمكّن من بناء منزل ولو صغير في قريته الوادعة “بيت قرفول”، و بعد أن أُحدثت “ضاحية الأسد” في جنوبي مدينة طرطوس مطلع ثمانينيات القرن الماضي، سجّل على منزل وكانت هذه هي المرة الأولى التي يملك فيها بيتاً خاصاً به.
شارك الفقيد في مواجهة عصابات الإخونج التي عرفتها سورية، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وتعرض لمحاولات اغتيال عدة، وكونه لم يكن يملك منزلاً (هو وضباط كثر) اقترحت عليهم الحكومة (كان رئيسها اللواء عبد الرحمن خليفاوي) وبعض المسؤولين في أمانة العاصمة، السكن في المنازل المصادرة من قبل الدولة ونقل ملكيتها لأسمائهم، لكن “أبو حازم” و كان قد صار أباً، قَبِل السكن في أحد تلك المنازل رافضاً أن ينقل الملكية إلى اسمه، وسيسلمه لأصحابه بعد استقرار الوضع في البلد وعودة الملّاك الأصليين للمنزل.
بالرغم من ضيق الحال التي عاش فيها “أبو حازم” قبل أن يشبّ أولاده (موزا و حازم و إباء)، بقي مضيافاً لقاصديه في دمشق، وباراً بأقاربه ومحباً لعارفيه و أصدقائه، وأورث تلك المزايا الحميدة لنجليه (د. حازم، و أ. إباء) اللذين، رغم ولادتهما في دمشق، يوليان صلة الرحم والتواصل مع الأقارب أهمية بالغة كإيلائهما فعل الخير ونشر عبير المحبة حيثما يحلان.
نعم، صدق الشاعر إذ قال فيما قال: “ويبقى من المرء الأحاديث والذكر”، فكيف إذا كان الذُكر هنا ينابيع خير وعطاء لا ينضب مقرونة بذرية مباركة وصالحة؟ ..العم “أبو حازم” طوبى لك ما فعلته و زرعته، و لروحك الرحمة و السلام.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار