بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
يا ليلة النصف من شعبان يا أملاً…
يُنيرُ عتمَ ليالينا ويُحييها
فيها من التأييد ما غاظَ العِدى ….
ومن التفضُّل ما يُرقي ويُسميها
مع اقتراب ليلة النصف من شعبان المُكرّم لا بدّ لنا من التذكير بعظيم فضلها ففيها تُصبُّ على البشرية جمعاء التجليات الإلهية صباً فهي من أعظم ليالي العام وأكثرها خصوصيةً.
ففي ما رواه الإمام ابن ماجة في سننه عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلي فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر.)
وكذلك ما رواه البيهقي عن أم المؤمنين عائشة الصِّدِّيقة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أتاني جبريل عليه السلام فقال هذه ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل ـ متكبر ـ ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر ).
فهذين الحديثين يرسمان لنا صورة التجليات الإلهية في هذه الليلة المباركة من شهر شعبان المُكرّم حيث التجلي الإلهيُّ بالقُربِ من العِباد عَبْرَ: “النداءات الخاصة”، و”النظرات العامة”.
أما النداءات الخاصة: فهي أوامر تفيضها الرحمة الإلهية على الخلق للتخلية والتحلية والتسلية.
نداءُ التخلية: (ألا هل من مستغفر فأغفر له)؛ هل من مُتخلٍ عن المعاصي والآثام، هل من مُعلنٍ توبته عما اقترف من الذنوب والخطايا لينال مغفرة الله تعالى في هذه الليلة العظيمة.
نداءُ التَّحلية: (ألا هل من مُسترزقٍ فأرزُقه)؛ هل من مُتَحلٍّ بحُليِّ الرزق الإلهي من فيوضات الكمال والجمال والنوال، هل من طالبٍ للرزق في المال والجمال والجاه والعلم وجميع معاني الخير لينال ما طلب من الله سبحانه صاحب المِنن والوّهَبْ.
نداءُ التسلية: (ألا هل من مُبتلىً فأُعافيه) هل من إنسانٍ يحتاجُ إلى سلوان عن قضاء وقع فيه أو قدرٍ جاء عليه لينال ما يريد من تبديل الحال وتغيير المآل من ذي العزة والجلال.
وأما النظرات العامة: فهي لكلِّ البشرية؛ ويُعتبرُ عدم النظر من قِبَل الله تعالى للإنسان من أشد أنواع العذاب يوم القيامة وقد قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] وبالتالي فإن نظر الله تعالى للعباد في الحياة الدنيا هي من أعظم النعم الإلهية فيشمل المنظورين بعين رحمته وعنايته ورفقه؛ وفي ليلة النصف من شعبان ينظر الله تعالى إلى جميع العباد عدا فئات معينة غلبت عليهم شقوتهم؛ وحاق بهم مكرهم؛ وهوى بهم سوء عملهم؛ فكانوا خاسرين لتلك النظرات في هذه الليلة العظيمة المباركة وهم:
المُشرك: الذي جعل مع الله إلهً آخر. فكانت عقوبته ألا ينظر الله إليه في هذه الليلة المباركة.
المُشاحن: الذي خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ قَالَ مَالِك لَا أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ ) رواه الإمام مالك في الموطأ فكانت عقوبة المُشاحن ألا ينظر الله إليه في هذه الليلة المباركة
قاطع رحم: الذي ابتعد عن صلة رحمه وخالف الأوامر الشرعية في الصلة حيث روى الإمام الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تبارك وتعالى أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته) فكانت عقوبة قاطع الرحم ألا ينظر الله إليه في هذه الليلة المباركة.
مسبل ـ متكبر ـ: الذي يحمل في طيات نفسه التكبر لن يحظى بالنظرة الإلهية في ليلة النصف من شعبان قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.[الأعراف:147]
عاق لوالديه: الذي تغاضا عن كون بر الوالدين فريضة ونسي قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [سورة الإسراء:23-24]
مدمن خمر: الذي تخلا عن عقله ورضي أن يغيب عن الحياة المعاشة ويغرق في بحار الظلمات المتراكمة.
لنستثمر هذه الليلة المباركة ولنكن فيها من المُحسنين.
نسألك يا أرحم الراحمين أن تنفحنا بمكرمات هذه الليلة المباركة وأن تفرّج عن وطننا وشعبنا ما حلَّ فيه من ضيق وغلاء وبلاء يا أكرم الأكرمين.