بعـــض رؤىً

بقلم عبد الخالق قلعه جي

يعرف علمُ النفس الذاكرة بأنها إحدى قدرات الدماغ البشري، التي تمكنه من القيام بالعملية الإدراكية العليا المنطقية أو الفكرية، عبر ترميز المعلومات، بما تتضمنه من أحداث وأسماء وأماكن وتجارب وأوراق رزنامة، وتخزينها والاحتفاظ بها ومن ثم استدعائها وقت الحاجة واستردادها.

دور حيوي تلعبه الذاكرة في جوانب حياتنا كلها وتَشكُّل تجربتنا المستمرة إذ تمنحنا إحساساً بالذات نحتاجه في أوقات كثيرة .. يكون لنا مسبار رؤى ويبقي على خطوات واثقة منتصبي قامة نمشيها.

لن نفصل كثيراً هنا في أنواعها الحسية وقصيرة المدى وطويلته، ولا في تصانيف الأحداث والمعاني، إنما سنحاول ملامسة بعض خيوط تتصل وتأخذنا إلى مقام الذاكرة وحضور أيامها في حياتنا أفراداً ومجتمعا ووطناً .. ونحن نعيش الذكرى السادسة والسبعين للجلاء العظيم .

مناسبة عظيمة ويوم أغر في تاريخ وطننا الحبيب، بما يحمله من دلالات ومعاني وبما يمثله في عقل ووجدان السوريين، وهم يعودون بالذاكرة إلى ذلك اليوم ورجالاته .. سلطان باشا الأطرش، صالح العلي، حسن الخراط، إبراهيم هنانو وغيرهم .. أسماء خالدة سطرت أروع صفحات المحبة والفداء على امتداد ساحة الوطن شماله وجنوبه . شرقه وغربه.

تضحيات كبيرة قدمها السوريون على مذبح الاستقلال واظهروا صلابة الإرادة التي أفشلت كل محاولات التقسيم والتفتيت .. ماضيها وحاضرها.. التي عمل عليها المحتل ما أرغمه في النهاية على الجلاء.

إن الماضي التاريخي هو ( الماضي – الحاضر ) وإن يوم الجلاء ليس فقط أن نستحضر الذكريات الماضية ونتغنى بها لأنها جزء من هويتنا الذاتية، بل هو استحضار الماضي وسبر أبعاده وعمق معانيه ومفاتيح انجازه، ما يجعل منه زاداً ومعيناً لا ينضب خيراً وقوة للحاضر والمستقبل.

من يتمعن في حدثه يجد أن الوحدة بين السوريين كانت أحد أهم حوامل الجلاء الذي تحقق .. وإذا كان من استثمار يمكث في الأرض، فإن هذا الحدث يأتي على رأس الأولويات بما يمثله بأهميته ورمزيته ومرجعيته، ويأتي أيضاً عنواناً أبرز في الهوية الوطنية السورية وفي تشارك الذاكرة الجمعية على تعددها الجميل وتنوعها البشري والسماوي.

يوم الجلاء .. يوم تستعيد فيه الذاكرة قوتها وحيوتها ودوائر وصولها إلى الأجيال اللاحقة، في إطار مشروع بناء الإنسان والحفاظ على موروثه الفكري والثقافي والتاريخي وذاكرته الوطنية وتثمين قيمتها، لينطلق الوطن عبرها للمستقبل الذي به يليق.

الحديث عن الجلاء يأخذنا للغوص في المعنى الحقيقي لهذا الحدث العظيم واستدامة فكره جيلاً بعد آخر في مقاومة المحتل .. صوناً وحماية للبلاد وحفاظاً على استقلالها وسيادتها أبداً حرةً عزيزةً أبيةً.

سنوات إحدى عشرة وكأنها غرابيب سود جلت .. إذ أقسمت أنفس وأرواح على دحر عدوان آثم اجتمعت له قوى البغي والشر ليستمر الجلاء متجدداً تعرج إليه قوافل المحبين في وطني براً و وفاءً.

لعلها قيامة سوريتنا الحبيبة في يوم فصحنا المجيد ورحاب رمضاننا المبارك وفي الأفق بعض رؤى والبعض أحلام .. وفي البال والذاكرة

درج البغي عليها حقبة

وهوى دون بلوغ الأرب …

لنا الأرض يرنمها المحبون، لا للعابرين هواءها ..

هم زعمها الواهي ونحن يقينها.

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار