بقلم عبد الخالق قلعه جي
“من يوم .. من يومين من شي اربعين خمسين سنة كنا صغار نلملم صدى حكايات خلف الدار” .. حكايات لاتشبه ألف ليلة وليلة.. لاكليلة ودمنة ولاحتى حكايات ابن الرومية في الجوارح والكواسر..
لمتابعة حياتية قدرية شددت وثاق الرضا.. وبكل الأمل والرجاء انطلقت إليها على متن حافلة لا تشبه باصات “الهوب هوب” التي أقلتنا إلى هناك ذات يوم عبر موضوع تعبير طلب الينا أن نكتبه ونحن في المرحلة الابتدائية بمدرسة غرناطة بحلب.
“مدري حلم مدري شي غمضة عين.. مدري حدا حلّف بالغصن عصفور.. بالورق بالفي بالنبعات”.. والسلام كما المحبة أمانة هناك عند العريشة والباب.. “حلوه بإيدا كتاب.. سلم على الحلوة”.
أكبر مما يمكن أن ترسمه آنذاك مخيلتنا، ذاك البحر الذي كنا نقاربه بساقية جُعلت لري مسكبات خضار في بستان “بالراموسة” او أخرى حفرتها مياه أمطار تصرف فيضها في تربة غضة ندية او في بركة ماء كبيرة أتتها سيول سماء، فملأت أخاديد فيها وشقوقا .. ليس من تخيل، كمن زار وبأم العين رأى.
حلب قصدنا.. حتى ونحن إلى اللاذقية عروس البحر في زيارة نرتحل..شاطىء الميرديان و أحد شاليهاته كان المكان الأول في رحلتي المختلفة هذه .. خمسة أيام قضيناها هناك ..أربعة مدفوعة الأجر والخامس منها هدية قدمت لنا عربون محبة.
تصدح موسيقا الموبايل لتحمل مكالمة عزيزةٍ لي.. لقد تم تأمين غرفة في فندق قبالة البحر إنما ضمن المدينة وبمزايا ايجابية وميسرة .. تحمل الحقيبة إلى حيث المكان الجديد والرسول.. عربون المحبة.
ريثما بدأت رحلة استكشاف المدينة، كان علي أن أستقل باصاً للنقل الداخلي باللاذقية لأنجز مشواري اليومي ذهابا على الأقل إلى منطقة جامعة تشرين.. وفي طريق العودة كنت آخذ الطرق التي رضي الفؤاد بها، لأتعرف على تفاصيل لم أمر بها قبلاً.. ولم أدر أطويل طريقنا أم يطول.
حاضرة كانت الأيادي البيضاء وقد تهاطلت غيثا عرفته ذات أيام حينما دائماً همى.. وأخرى من حيث لا تحتسب تُمد إليك جسر نبل.. ودائما عربون محبة.
عليك السلام وصباح النور أو مساؤه.. يرد سائقو الباصات، وقد طالعتك قسمات وجوهم مبتسمة عموما أو على الاقل غير متبرمة ولامتذمرة أو متجهمة فيما باصاتهم مزدحمة عن آخرها في اوقات غير قليلة.
بكل هدوء وانسيابية يصعد الركاب.. السائق هو من يقطع التذاكر ويعيد إليك بقية المبلغ حسبما دفعت له .. يتعاون مع الجميع ويوجه بكل ود واحترام لإفساح المجال لمنتظرين على المواقف ليجدوا مكانا لهم وينضموا إليهم في رحلة الباص هذه.
لاصوت للركاب رغم كثرتهم..لااحتكاك أو مشاحنة ولاملاسنة.. كل “بموبايله” مشغول لاتسمع سوى أصوات التسجيلات التي أطربتني مراراً .. جورج وسوف.. ( تعازينا الحارة) ..ميادة الحناوي.. صباح فخري.. فيروز وعبدالحليم وباقة محببة من الأغاني الساحلية الجميلة.
بعيداً عن لغة الأمر ورفع الصوت عاليا .. “ع رياحتك لو سمحت” العبارة السحرية التي لم أدر كيف تصل مسامع السائق من الراكب الذي يجهز نفسه للنزول من الباب الخلفي في الموقف المحدد.
الحالة الجميلة هذه في الباصات عموماً تتوج بإفساح المجال والمكان لصبية واقفة لم تجد مقعداً لها أو سيدة أو كبير سن .. وبكل المحبة.
زيارات شبه يومية لأصدقاء وزملاء وبعض من كان قائماً على مفصل مسؤولية “بأمانة أداها بحلب” قبل حوالي اثني عشر عاماً.. و وجوه باسمة آملة بقادم أجمل ان شاء الله و “نشكر الله”لا تفارق الألسنة ولا النفوس.
نهضة عمرانية عمودية وأفقية لافتة تقول: إن وراءها قرارات وإجراءات وتسهيلات هيأت لها وحمَلَتها.. وإن ذهنية انتقلت من جمود تطبيق حرفية اللوائح والأنظمة والقوانين إلى العمل بروحها وتحقيق الغاية التي وجدت من أجلها.
هو الاشتياق الذي علمني أن أبقى أشتاق.. أن أرى ذلك الرجل مستشارا يستفاد من كفاءته ونزاهته ومحبته.. أن أراها تنهض من جديد تلك الحبيبة الشهباء .. أن أرى يوماً بعض ترجمة وتجسيد لقول وبرنامج وخطة الى بناء وعمل للوطن وللناس ينفعهم .. يخفف من معاناتهم ويحسن أحوالهم وهم يستحقون.. يستحقون .. وكثير من العتب والسؤال لوعة واشتياق.
بعد أن مدت له في صالة الأشعة يداً قال لها: من كل قلبي شكرا .. استثمري مااستطعت هنا وادخري .. قدمي الواجب للناس.. ابسطي يدك النبيلة لهم أبداً وارتق بعملك من الوظيفي “مع كل الاحترام” إلى الانساني لتنالي رتبة العطاء ومرتبتها وتصِلي نفسك بنفسك وبالناس وبالله.
على فيض أمثال هؤلاء، تتجلى كلمة الله، ومن خلال عيونهم تشرق بسماته على الأرض.. ستون لنا فيك ستبقى في النفس والذاكرة والوجدان والروح ..عربوناً لكل المحبة.
بإمكانكم متابعة آخر الأخبار و التطورات على قناتنا في تلغرام