بقلم عبد الخالق قلعه جي
بعد مراجعة دائرة رسمية ذات نهار مشمس غير بعيد.. كالمتيم بغصين البان، حرت أنا أيضاً في أمري.. أأتخذ الطريق إليها عبر باب أنطاكية.. المدخل الذي يتوسط أبواب السور الغربي للمدينة.. أم أدَع ظلالي ترسمها الشمس عليه، لأعبر إليها من شريان آخر يتدفق بي إلى هناك.
استأذنت هذا الباب العظيم مستيمناً السور في الطريق إلى (باب جنين).. هنا يقوم خان الشربجي.. على يمينه تنتشر محال لبيع الحصر والاسفنج وقبلها صيدلية – ما أحوجنا إلى بعض جرعات من اسمها- الوفاء، وغيرها من الدكاكين الصغيرة التي تمتد إلى خان الأسود منتهية ببسطة شواء وأخرى تقدم الكبة الصّاجية.
أبو علي قزاز صاحب بسطة الكبة الشهيرة هذه ذكر لي أنها تعود إلى أكثر من ثمانين حولاً ورثها أباً عن جد.. شهيةٌ حقيقةً هذه الأقراص التي تلونها شرحات الفليفلة الحمراء المقلية ملفوفة برغيف خبز يقدمه أبو علي للزبون بعد أن يعصره من الزيت، مع الابتسامة، وكأس لبن أو عيران إن شئت أو بدونها.
الجامع العمري الذي يعود إلى عام ألف ومئتين وثلاثة عشر، يستقبلك قبل أن تصل سوق العتمة والدكاكين المجاورة للمدخل فالإشارات الضوئية دون أن ننسى الخواتمي وحلاوته الطحينية.
اليمين غير مفتوح لذا كان عليّ أن أنتظر لون السماح لأنعطف يميناً إلى طلعة البنوك.. ومن ثم إلى مفرق جب أسد الله (العواميد أو شارع قيلش) الذي أردته ممراً غير عابر يأخذني داخلاً إلى قلب المدينة القديمة.
محلات العواميد كانت ذات يوم سوقَ بيع بالجملة للسكاكر والموالح والصابون والبلاستيكيات المنزلية ومحال للألبسة والخياطة الرجالية، وهي الآن تعود تدريجياً بوتيرة خجولة. أما في الجهة الجنوبية المقابلة للمدخل فتتربع حماما غرناطة والسادات مجاورتين لحي العقبة.
على وقع أنين الحجارة التي تلعن الأيادي السوداء الآثمة، لم أشأ أن أتابع يساراً باتجاه منتصفه بل تابعت اليمين الموازي لشارع خان الحرير.. لتأخذك أزقة الدمـ.ـار إلى فسحة الأمل التي تتلاقى كل الدروب فيها.. قبل أن تخلع نعليك ورعاً، عند أعتاب الجامع الكبير.
تسعدك نشوة، وأنت تطرب لإيقاعات إعادة رصف هذي الساحة بحجارة الحياة البازلتية.. تزهو، وأنت تستحضر ذاكرة المكان الذي ينهض من جديد.. صيدلية الكيالي بخط الثلث كانت لوحتُها والتوقيع للخطاط الرفاعي.. فلافل حلب.. خياط القمصان وخيوط للتاريخ ما انقطعت يوماً عن نسج أحرف الحكاية.
الصلاة والسلام عليكم يا أنبياء الله أجمعين.. كأني أسمعها – بصوته.. صبري مدلل رحمه الله – طالعةً وأنا أيمم الوجه شطر الجامع الكبير.
مقابل الجامع، وعند أول طلعة خان الوزير.. أعمدة حجرية تعلوها تيجان، توالدت من رحمها أقواسٌ رصينة للأبواب الأرضية الكبيرة والشبابيك التي تعلوها قليلاً، لتفسح الفضاء للكشك الخشبي الجميل بزخارفه المشرقة، معلناً عن عودة هذا العقار للحياة من جديد وكما كان عليه.
عقار بجواره يعود إلى عام ألف وثلاثمئة وسبعة وثلاثين هجرية كما تقول نقوشه الحجرية المتبقية، والذي تعرض هو الآخر للدمار أيضاً، لم تمتد إليه يد بعد.. وثالث أحزنني كثيراً وقد علقت على بابه الحديدي لوحة، كتب عليها محل برسم البيع….
في حلب يصير الغبار المبارك كحلاً يشتاق العيون الرانية إلى سوق النسوان المقابل لسوق الزهراوي، والذي يحسب لأصحابه إيجابيتهم ومشاركتهم في ترميم وتأهيل هذا السوق منذ عدة سنوات.
بعبقها الساحر تبعث محلات العطور – طلعة خان الوزير- أريجها ليصل البناء المجدد على زاوية السويقة مقابلاً بواجهته الشرقية جامع الخير الذي عادت إليه ترانيم الروح.. سبيل ماء أمامه.. وسقاهم ربهم شراباً طهوراً.
لا حياة في خان الوزير يمكن الحديث عنها فيما تتواصل أمام قلعة حلب أعمال تأهيل مبنى مديرية التربية الذي انتقل وظيفياً إلى الخدمات الفنية في وقت سابق وليتحول الآن إلى واحدٍ من منشآت الاستثمار السياحي.
مشياً على الأقدام كما بدأنا، نعود أدراجنا الهوينى نزولاً من أمام القلعة باتجاه المطبخ العجمي مارين بالمحلات التي تقدم القهوة والأخرى التي تبيع المأكولات على الماشي، وغيرها التي اختصت بما تشتهر به حلب من صناعات يدوية وتراثيات وشرقيات، فيما الطوابق التي تعلو لمّا تزل خاويةً على عروشها.
ملياً وبعد أن تجاوزت مبنى هاتف خان الوزير توقفت لأنظر بقايا قوس لقبة المطبخ العجمي وهي تمسك أحجاراً أبت أن تنفك أو تغادر قوسها وكأني بها تنتظر يداً حانية تشد من أزرها وتكون لها سنداً وعوناً إلى أن تجمعها ذات يوم أقدارها.
فندق جوليا دومنا أول شارع وراء الجامع الكبير وبعد أن نفض عنه غبار الإرهاب يقوم منتظراً الأبنية المجاورة والمقابلة التي عادت الحياة فقط إلى محلاتها الأرضية.
إلى السبع بحرات نمضي ونحن نصغي إلى مياهها الآملة.. أمل غرفة الصناعة وعملها، لتطالعنا المباني الرسمية على يمين الشارع وحتى نهايته وهي تعود تباعاً إلى تقديم خدماتها.
اليسار مفتوح باتجاه جادة الخندق وأفضلية المرور ليس إلا للسيارات أما المشاة ومن عليها، فعليهم دااائما.. الانتظار.
باتجاه حي الجديدة نقطع الشارع عند عوجة الكيالي.. فرحٌ للروح يحملنا.. الأمل صار حقيقة، والحقيقة تتجسد بقيام الكنيسة الإنجيلية العربية من جديد مستمرةً برسالتها السماوية للنور والايمان والمحبة والحياة.
إلى جادّة الخندق نقفل عائدين لتقفز بنا الذاكرة إلى أيام الترمواي التي كانت تنطلق من أمام القصر العدلي بالقرب من قلعة حلب عابرة هذه الجادّة ضمن مسارها ولينتهي خطها في الجميلية وتبدأ رحلة الإياب.
مَعْلم رئيسي بارز هذه الجادة من حيث موقعها ومن حيث ما تضمه من فعاليات تجارية هامة نأمل أن تستعيد ألقها ونحفظ معها اللوحة محروسةً محميةً بكل تفاصيلها.
الفتال وسانوسيان.. كرزة ومقديس وعطارة.. اللوحة الأمانة في أعناقنا.. أمانة التاريخ والوطن.. الضمير والإنسان، أن يبقى هذا المشهد بجلاله.. فما اكتمل إلا باجتماعها.. – أسوق ذلك مثالاً قابلا هنا وهناك لتعميم – لا نريد ( لدرّابية ) أن تسدل ولا لوحة تعلن عن بيع أو استثمار بداعي السفر أو غيره.
وإذا كان من عمل ينفع الناس ويمكث في الأرض فيجب أن يكون عبر تشخيص هذه الظاهرة، التي باتت تقرع جرس الإنذار في أمكنة نعرفها جميعاً والخروج بوصفة ناجعة وإجراءات إيجابية عملية حقيقية تضع خير الوطن والناس المحبين أولاً.. تنزع الأسباب وتسحب المسوغات وتسد كل الذرائع، ولنا في السيد الرئيس وما قدمه وما وجه به خلال زيارته الأخيرة لحلب كل القدوة المحبة والمثل.
برسم المعنيين نرفعها ومعها ثقة بالمخلصين العاملين لهذا الوطن الذي يستحق كل المحبة الصادقة المجسدة.. لا برسم البيع.. لا حقيبة سفر.. ولا يحزن ولا بيت ولا يتسكر باب.. أمل نقبض عليه ما أوتينا من قوة تلك الحجارة الممسكة بقوس المطبخ العجمي.. تأبى أن تنفك أو أن تغادر.
بإمكانكم متابعة آخر الأخبار و التطورات على قناتنا في تلغرام