بقلم عبد الخالق قلعه جي
من أجمل ما غنى الكبير الراحل صباح فخري، وصلة من الموشحات على نغمة السيكاه التي سجلها في إذاعة حلب مطلع الستينات، وختمها بموشح يا نسيمات الصَبا.
ما بين الصَبا ونسيماته، نحيل قوام ورشاً أحور، رمى قلباً بأهداب عيون سود، تغني في لحن الصَبا أو نغيمات الحجاز.. تَنشد صبَّاً صَبَا وتنعش راحاً وأرواحاً، وتضوع مقام هزام.
للقد المياد سطوة.. هكذا غناها محمد خيري، ولا حيلة له في الحسن إلا الخضوع والامتثال لما أمر.. لعله أيضاً سحر المقام الذي جعل سيد ملحني القصيدة السنباطي يبدع أروع تجلياته.. حديث الروح.. الأطلال.. نهج البردة.. سلو كؤوس الطلا.. بيني وبينك ونغم ساحر وغيرها.
كثيراً ما تستلب المشتغلين بالموسيقا والغناء وحتى السميعة، هذه الحالة.. حالة تسيطر فيها النغمة الآنية التي يعزفون أو يغنون أو يسمعون.. يدورون في فلكها خاصة أثناء الارتجال والتقاسيم، فيعز عليهم المغادرة والانتقال إلى نغمة أخرى، ويستعصي على آخرين أحياناً، النفوذ من أقطارها الجميلة.. حالة من السلطنة وأسْر المقام، يصعب الانفكاك من إسارها، فلا ترام أو تستطاع إلا بسلطان.
أسر وسحر كما الظمأ ألح علي أيضاً باستحضار أغانيه “محمد عبد الوهاب” وموسيقاه، لتروي غياباً لها يتلون حيناً وآخر بين حبيب مجهول.. رُدَّت الروح.. دعاء الشرق.. النهر الخالد.. جفنه علم الغزل وكلما وجهت عيني نحو لماح المحيا “عندما يأتي المساء”..
على السواء بينها تَقَسَّم القلب، فلكلِ بيت وحارة وشارع، فؤاد في القلب لها.. عِشرة عمْر، بينك وبين تلك الشوارع التي تأوي إليها في غدوك والرواح تبثها خلجات نفس.. آهة روح.. هواجسك والأمنيات، فتصير بعضاً من هذي الدروب وتلك المعالم، شاهداً عليها وشاهدة لك.
هو الطريق الذي كنت أقطعه في هذا الشارع الذي تتفاوت أعمار أبنيته من المصنفة أثرية وحتى الحديثة لأكثر من عامين، في رحلة الذهاب اليومية إلى القصر البلدي والإياب، حيث انتقلنا لنستمر بإذاعة حلب من هناك وذلك قبل حوالي أحد عشر عاماً.
مدرسة الملكة زنوبيا.. صالة معاوية.. جمعية العاديات وأمامها بسطة لبيع الأقلام الناشفة وأخرى لتصليح الأحذية كنا بوجودها اليومي نستأنس.. محل حلويات لبيع الكاتو بقطعته الشهيرة، التي تعلوها قبة من خلطة توابل لذيذة تذوب عند اللقاء..
مدرستا المأمون والأمين.. معهد صباح فخري وموعد مع عبير القهوة يملأ المكان في هذا الشارع الذي ينتهي بجامع زكي باشا، واستراحة غالباً كانت تتم لفنجان قهوة أو وجبة غداء في بيت أحمد أحد الأصدقاء الأوفياء المحبين الذي جعلنا منه مكتباً وملحقاً متمماً لمكان عملنا.
إلى اليوم مازلت أقصد الشوارع، التي ربما أصبحت وإياها على علاقة أكثر توحدا.. أصافحها فتلفح وجهي شذى أنفاسها وأستعيد معها تلك السنوات التي عشنا سوية كل أوراق رزنامتها، وما سجلت من آلام أيام سوداء.. بيضاء، وما حملته من أمل ومحبة ومنتَظَرٍ أجمل.. وما أصابها تالياً بفعل زلزال شباط الماضي.
ذات أصيل وعلى شرفة نهر قويق بشارع الفيلات، الذي يوازي شارع الشيخ طه ويتعامد مع المؤدي إلى منطقة السليمانية، كان موعدي مع قهوة الإكسبريس الممددة هناك.. مع كل رشفة كنت أمسح الأبنية كمن يسلِّم عليها واحدة واحدة وبكل الفرح.
سعادة غامرة، وأنا أنظر أعمال الصيانة والترميم، التي شارفت على نهايتها لأجزاء علوية تضررت بفعل الزلزال في كنيسة النبي الياس.. وأخرى في كنيسة مار جرجس ومآذن جامع التوحيد التي بوشر العمل في ترميمها مؤخراً.
رشفة لما تبقى من قهوة في كأسها الكرتونية الصغيرة على شرفة نهر قويق الفيلات، أخذتني على جناح الأسى إلى ذات الشارع.. شارع الإسماعيلية حيث كنا قبلا.
منذ شباط الماضي.. أبنية بحكم الأثرية.. تعلن حجارتها التي انفكت قسراً عن سياج أسطحتها وترامت على شارع ورصيف أنها آيلة للسقوط، وما تبقى مسألة وقت، لنقول كانت هناك والبقية تفاصيل..
تفاصيل تقول إن كل العمل الذي تم حمايةً لهذه الأبنية وللمارة.. لا قدر الله.. هو فقط ذاك الشريط الأحمر الذي ينتظر من يسمع صوت الحجارة المرتطمة مذ تهاوت قبل أشهر لعله يصل.
غير بعيدة عنه وعنها.. من الألم مازال يتلوى ذلك الذراع الحجري الجميل الحامل لشرفة جمعية العاديات، الذي يئن كل يوم تحت وطأة حملٍ مؤلمٍ قاسٍ أثقل كاهله نتيجة انزياحه المستمر يوماً بعد آخر عن أرضية الشرفة التي فرَّق حجارتها الزلزال.
ربما مازال هناك بقية باقية من بعض وقت، قد يكون ذهبياً، إذا تنادى الغيارى والمحبون فترجموا برامج عملهم، دعامات من حديد أو خشب لشرفة جمعيتهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
همسة محبة وجرس إنذار نضعه على طاولة العاديات وكرسيها الآن الآن وليس غداً قبل سقوط وشيك وانهيار، نصبح نحن عليه شهوداً متفرجين.. وفعل ناقص كنا وكان، لا نريد أن يكون، ونكون له مرددين.