سهيلة العجي
بدعوة كريمة من الأستاذة بيانكا ماضيّة أمينة التحرير في جريدة الجماهير بحلب؛ للحوار معي حول ماجرى لقلبي، أنا أم الشهيد، وحول الكندي والحرب لكتابة روايتها (كأس النبيذ.. حافية على طريق الجلجلة) كما أخبرتني، وحول أحاديث أمهات بعض الشهداء حول ظهور أبنائهن لهن، أكان رؤيا أم مناماً وأحاديثهم معهن – نحن أمهات الشهداء، نحن الأصدق؛ لأننا أولياء الدم، وعشنا وعانينا ويلات الحرب الظالمة على بلدي الحبيب سورية- ذهبت من دون تردّد، وكنت أسارع الطريق، أسابق السيّارة بنظراتي التي تسبقها كيلو مترات، وأشاهد ما لا يشاهده الكثيرون، فأغلبهم نائمون بسبب النعاس والإرهاق والتعب من عناء الحياة. عيني تأبى أن تغفو رغم التعب، لكن ما منعني هو صور الشهداء التي تزيّن شوارعنا وشرفات منازلنا، لا تغيب صورة ملاك إلا وتلحقها صورة أخرى. مشيت، وعند وصولي جبلة رأيت مارأيت.. هنا أكوام من الرمال والحجارة… هنا سقطت بناية بسبب الزلزال، وبقربها لم تسقط أختها المتلاصقة بها. أسئلة كثيرة استوقفتني، ولا مجال للردّ الآن. الآن وأنا أدخل المدينة، تطالعني مظاهرها، الحياة طبيعية تعجّ بالمارّة، نزلت من الباص، وإذ بأحدهم يدفعني في مشهد التدافع ثم يمشي من دون اعتذار وينظر إلي، أنا الأم الحزينة المرتدية ثوب الحداد، لكنه كان يرتدي ثوب العمل والجهد. سامحته بمجرّد أن رأيته يسارع الوقت. هأنذا أنتظرك يا بيانكا ..كنت أقول لنفسي الآن تأتي بسيارة الإعلام، وإذ بها تنزل من الميكرو وتعانقني بلهفة وشوق. لم أسألها عن وسيلة النقل، أخذنا ميكروباص آخر، وذهبنا إلى شاطئ البحر، وهناك وجدنا بحراً من البشر، ولم نر الماء في البحر. بحثنا عن مكان نجلس فيه على الصخور بعد أن أخذنا بيدنا فنجان القهوة اللاذقانيّة التي تحبّها بيانكا. رحت أنظر لجمالها، وتنظر إلي بعينيها الجميلتين الدامعتين …أغبطك يا أم الشهيد، أخيراً تحقق حلمي، قالت لي، فأنا اليوم أشمّ رائحة الشرف والبطولة والكرامة، إني أشمّ رائحة سورية المجد والعلا.
وبدأنا الحديث عن بنيان ورفاقه والحرب، وكيف اختار بنيان طريق الجيش، واختار الدخول في معركة النصر، إما أن يعود مختالاً على صهوة الحصان، وإما عريساً في زفة شهيد. كانت تمسح دموعها، وكنت أحاول أن أقول تفاصيل دقيقة، لكن الحقيقة المرّة أعجز عن قولها، ويعجز قلمي عن لفظها. انتهى لقاؤنا بعد أن دام أكثر من ثلاث ساعات، وعدنا أدراجنا، فنحن على موعد لزيارة مقام السيّدة العذراء، والتي تبعد عن اللاذقية أكثر من عشرين كيلومتراً. وبعد أن فقدنا الأمل في تأمين سيارة، وبقرار مني قلت لها لايكلّف الله نفساً إلّا وسعها، هيّا نصل للعذراء ونشعل الشموع هناك بقرب شجرة الزيتون المباركة، وإذ بأحد أقرباء صديقة بيانكا صاحبة البيت التي كنا في ضيافتها لنخطط للصلاة، يدخل إلينا زائر لأول مرة منذ زمن بعيد، يأتي بزيارة العيد، وسمع ما دار بيننا، وقال لنا: أنا من سيأخذكم لزيارة العذراء، فلها دين علي، لكن بشرط أن تشرّفوا بيتي، وهو قريب من مقامها الطاهر. وبعد أن دخلنا وشربنا القهوة، رأينا الرجل، خرج مسرعاً يبحث عن مفاتيح السيارة التي نسيها داخل السيارة التي تقفل بشكل أوتوماتيكي. بعد عدّة ثوان، عاد يضحك ويبارك لنا هذه الزيارة المقبولة، قال: إن السيارة لم تقفل، وخشيت أن أكون قد نسيت المفاتيح بداخلها، وأرانا المفاتيح التي معه. كان ذلك بعد إغلاقها بنصف ساعة. هنا قلت لهم: أتخشون، وبصحبتنا نبيّ ملاك، إنها العذراء وبنيان. هنا اندهش الجميع، وصعدنا في طريقنا إلى مقامها الطاهر حيث تتكئ على حضن الجبل، تحتضنها أشجار السنديان والغار . أقمنا الصلاة، كل من خلال صلاته ومعتقداته وبطريقته، وأشعلنا الشموع، منّا يصلّب، ومنا يسبّح، ومنّا يسجد، ومنّا يقف خارجاً بخشوع وبكبرياء… يا الله هذا هو الشعب السوري الحرّ النظيف. وعدنا أدراجنا بعيون يملؤها الرضا والتبريك والتسبيح لسوريتنا الحبيبة، والتقديس لجيشنا المبارك، ولقائدنا المفدّى، والمحبّة لكلّ سوري، والترحيب والتأهيل لكل عربي وأجنبي محبّ لهذا البلد، تطأ أقدامهم جميعهم هذه الأرض المقدّسة المباركة الطاهرة.
في نهاية الزيارة قلت لبيانكا بعد أن رأيت انهمار دموعها أمام صورة السيدة العذراء: تقبّل الله صلاتك وصلاتنا. فابتسمت، وعانقتني وفي عينيها دموع الفرح.