» محمود جنيد
بينما كنت اتسحب بمسيري المضطرب مكتوياً بلهيب شمس صيفنا الجهنمي التي أذابت ما بقي ملتصقاً بهيكلي العظمي البائن من جلد رث متصبغ بألوان عذابات سياط الحياة؛ تعثرت بأنين صوت يندب على رصيف شارع بارون بالقرب من البقعة المنتنة التي مازالت تنشر ريحها العفن..!
تصرفت على فطرتي رغم قناعتي بأن الميت لا يقوى على حمل ميت ” أرواح متصدعة”!، وسألت الصبي عن سبب نحيبه بعد أن وضعت قناع البشاشة المزيف ظناً بأنه فزع من مظهري الدارج “تريند” على منصات واقعنا السقيم..!
وبقي الصبي الذي بدت على محياه علائم البؤس وسوء التغذية على حاله شاكياً باكياً لتتحرى حاسة الشم خاصتي رائحة بيض يقلى على صفيح الرصيف اللاهب، القليل من شبه ” اللبنة” في يد، والكيس الٱخر الذي اسقط من يد الصبي كان يكتنز غداء الأسرة ؛ ست بيضات “بسبعة آلاف و٥٠٠ ” تكسرت ومعها خاطر الصبي البائس و شويت على حرارة النار الطبيعية التي أضرمتها شمس الصيف الكاوية.!
الصبي: لا تقل لي بسيطة و حصل خير، لأنهم سيعاقبونني بجريرة جوعهم الذي لن تسكته أي مبررات لما اقترفت ..يبكي ويبكي ويبكي!
ويأتي دوري بتلقي الصدمة عندما رفض الصبي اي مساعدة لتعويض البيض الذي تكسر، لأن ذلك غير المسموح لدى العائلة المتعففة التي يعمل معظم أفرادها لتأمين ثمن وجبة على الأكثر مع استثناءات معينة، الأب ” موظف بدوامين” لتغطية اجار المنزل الذي رفعه صاحبه قرابة الضعف، والوالدة ” عاملة في أحد المشفيات” لتغطية الاشتراك بالأمبير وهو الشر الذي لابد منه في ظل الحر الشديد والحاجة للمروحة مع واقع جفاء الكهرباء، الابن الأكبر مع اثنين من الأشقاء من بينهم أنثى ” ورشة خياطة” لتأمين مكونات الطبخة التي لا تشم رائحة الإيدام في ظل الغلاء الهستيري المهوِّر الذي لا يقف عند ضوابط أو حدود.!
كانت ردة فعل الصبي المشرفة بمثابة درس كبير لي في هذه الحياة وأنا أتدارس مع نفسي عروض عمل جديدة تدر فتات الأجر لتعزيز قوتي الشرائية المنهارة تماماً، فرغم أن هناك من صنف بلدنا على رأس الدول الأكثر فقراً وهذا غير صحيح لاسمح الله !!!!، إلا أن طيف الصبي المجهول، أكد بأننا مازلنا أغنياء بالعفة والكرامة التي جبلنا عليها، علماً أن هناك وعلى مدار اثنتي عشرة سنة، ما يشد وثاقه على أوداجنا ليسحب رفاتنا إلى سابع أرض، ليكمل علينا دود الخل!
شقيق الصبي الأكبر نجح بالبكالوريا علمي ويحلم بهندسة العمارة ليبني ما تهدم من حياة الأسرة، بينما هناك من رسب وبجدارة في امتحان المسؤولية رغم أنه يغرف بلا وجع قلب من نعيم بيت المال السائب.!
و … “حوّل أحماااد” مالنا غيرك بعد الله.. حوّل ياطويل العمر ولا اطوّل !!